من جراح لمدرس لشيخ من شيوخ الفضاء

"الباز".. المصري حامل مفاتيح القمر

لم يصدق نفسه عندما دعاه لمقابلته، لم يعبأ ببرودة شتاء تلك المدينة الساحلية، استقل أول قطار يتجه إلي الأسكندرية، لم ينتظر قليلاً ليستريح، بمجرد أن وطأت أقدامه رصيف المحطة، راح يبحث عن سيارة تقله إلي فندق فلسطين، ذلك المبني القابع وسط مساحات خضراء بأطراف حدائق المنتزة، ليستقبل أول صدمات تلك الدعوة التي حلم بها.

 

كان الموعد قد حدده صاحب الدعوة بنفسه، علي أن يكون اللقاء في السادسة مساءً في بهو الفندق المُطل علي البحر، إقترب الصحفي يرافقه زميله المصور الشباب "محمد فرج" من البهو فلم يجده، كعادته لم يضطرب، فهذا الموقف مر علية كثيراً، راح يسأل علية هنا وهناك، لم يترك مسئولاً أو عاملاً إلا وسأله عنه، تسلل القلق إلي عقله، سمع دقات قلبه، أدرك أن حلمه بلقاء ذلك الرجل يتبخر.

 

فجأة وبدون مقدمات، ومع حالة ذلك الصحفي التي لا يرثى لها، تبرع الجميع للبحث عن الرجل، حتي مساعده الشخصي، ترك ما بيده وراح يبحث هو الأخر عن أستاذه، لكن دون فائدة تُذكر، كان الموقف يزداد تعقيداً، لقد انتصف الليل ولم يأت الرجل، ماذا سيفعل الفتي الأن، لقد جاء من القاهرة خصيصاً من أجل هذا اللقاء، ماذا سيقول لرؤسائه، لقد وعدهم بلقاء حصري لم يسبقه إلية أحد.

فجأة، ومع تخطي الواحدة صباحا بعشرة دقائق، دخل الرجل حاملا حقيبته الصغيرة مترنحا، يبدو مُجهدا كثيرا، لقد قضي ليلته وسط الكتب والمراجع بمكتبه الأسكندرية، كعادته لم يُخبر أحد، وما أن شعر جسده بالتعب، وعقله بالإرهاق، حتى قرر أن يعود إلي فراشه، اقترب منا كثيرا، وهاله أن رأى الجميع في إنتظاره، وبمجرد أن شاهد ذلك الصحفي ابتسم وكأنه يتذكر الأن موعده، اطلق ضحكة صغيرة راجياً أن يعذر ذاكرته التي أصابها النسيان، قبل ان يصطحبه والمصور إلي البهو المطل علي البحر وقد ذهب كل تعبه واجهاده، ليبدأ ما وعده به.

 

شيخ عجوز أسمر، يحمل وجهه كل ملامح الطيبة والأصل الطيب، رغم سنوات عمره التي قضاها مهاجراً في بلاد العام سام،  لم ينسي عاداته وتقاليده التي تربي عليها، يلقبونه في وكالة ناسا الفضائية بالملك، وكان أبلغ ما قيل عنه جاء علي لسان تلميذه، رائد الفضاء رحلة أبوللو الأشهر "ألفريد وردن"، والذي قال عقب وصوله إلي القمر: "بعد تدريبات الملك.. أشعر أنني جئت هنا من قبل".

 

إنه العالم المصري الدكتور فاورق الباز، ذلك الرمز الذي ولد في الأول من يناير عام 1938، لأسرة بسيطة الحال في قرية طوخ الأقلام، إحدى قرى السنبلاوين في محافظة الدقهلية، شجعه الوالدان على التدرج في مراحل التعليم المختلفة، حيث كانا يؤمنان دائما بقدراته ونبوغه، كان والده أول من حصل على التعليم الأزهري في قريته، وكانت أمه رغم بساطتها عونا له في اتخاذ قراراته المصيرية، حيث كانت تمتلك ذكاء فطريّا على حد وصفه.

كان حُلم الصبي في بادئ الأمر أن يُصبح جراحاً عظيماً، لكن درجاته في الثانوية العامة حالت دون ذلك، فاضطر ألماً أن يلتحق بكلية العلوم بجامعة عين شمس، اختارها دون كلية طب الأسنان، لأنها كانت أقرب إلى مسكنه، ويستغرق المشي إليها ساعة ونصف فقط، وهو ما يساعده على عدم إهدار القروش في الذهاب إليها بالمواصلات العامة، رغم أنه كان يهوى منذ الصغر الذهاب إلى الرحلات الكشفية، وجمع العينات الصخرية، لم يسمع عن علم الجيولوجيا، منبع نبوغه، إلا حينما التحق بكلية العلوم.

 

حصل فاروق الباز على شهادة البكالوريوس في العلوم عام 1958، وقام بتدريس مادة الجيولوجيا بجامعة أسيوط حتى عام 1960، حينما حصل على منحة لاستكمال دراسته بالولايات المتحدة، وهناك حصل علي شهادة الماجستير في الجيولوجيا عام 1961 من معهد علم المعادن بميسوري الأمريكية، ثم حصل على عضوية فخرية في إحدى الجمعيات الهامة "Sigma Xi" تقديرا لجهوده في رسالة الماجستير، والتي نال بفضلها شهادة الدكتوراة في عام 1964، وتخصص في التكنولوجيا الاقتصادية، واستطاع خلال هذه الفترة زيارة المناجم الهامة، وجمع آلاف العينات من بلاد العالم التي زارها.

 

كانت عيون فاروق الباز متجهة دائما إلى مصر طوال فترة إقامته بأمريكا، فجمع عيناته وأبحاثه وعاد إلى بلاده، يحدوه الأمل في إنشاء معهد عالٍ للجيولوجيا، إلا أن المفاجأة كانت في انتظاره، فوجئ بأمر يخبره نصاً: "عليك استلام عملك كمدرس للكيمياء في المعهد العالي بالسويس"، هكذا بكل بساطة بعد ثمانية أعوام في دراسة الجيولوجيا يدرس الكيمياء في معهد لم يسمع عنه من قبل.

رغم صدمته واندهاشه، لم يفقد الأمل، وانطلق إلى المسئولين بالوزارة لكي يسمعه أحد، ولكن جهوده باءت بالفشل، وبعد ثلاثة أشهر من المحاولة، اضطر للذهاب لاستلام عمله في هذا المعهد الغامض، أملاً أن يسمعه أحد بعد استلام وظيفته الجديدة، وداخل المعهد قابل أحد أهم أسباب تغيير مسار حياته، حيث التقى بأحد زملائه الفيزيائيين، وكان حاصلاً على الهندسة النووية من روسيا، واضطر إلى تدريس مادة الصوت والضوء، حيث نصحه بعدم استلام عمله حتى لا يفقد كل شيء، وعلي الفور سحب أوراقه بعد دقائق من تقديمها إلى إدارة المعهد.

 

"لم أتخيل يوما أن سأهاجر بعيدا عن بلدي".. قالها الدكتور فاروق الباز بمنتهي الحسرة، ففي ديسمبر عام 1966، وبعد عام من المعاناة، قرر أن يسافر سرا إلى أمريكا، خوفًا من الظروف السياسية الشائكة التي كانت تمر بها مصر آنذاك، وهناك بدأ في رحلة شاقة للبحث عن عمل، ونظرا لوصوله بعد بدء العام الدراسي، فلم تقبله أي جامعة من الجامعات، فأخذ يبعث طلبات التحاق إلى الشركات جاوز عددها المائه، إلى أن أرسلت له وكاله "ناسا" الفضائية، فقد كانت تبحث عن جيولوجيين متخصصين في القمر، وتمت الموافقة علية وسط دهشته.

 

المثير أن الدكتور فاروق الباز، أكد أنه وافق علي وظيفة وكالة ناسا الفضائية، رغم أنه لم يكن يعلم أي شيء عن جيولوجيا القمر، وإنه لم يكن يدري أنه سيكون له فيها شأن، وبعد أيام، وداخل إحدى قاعات المؤتمرات، والتي كانت تتحدث عن جيولوجيا القمر، بفوهاته البركانية، ومنخفضاته وجباله، لم يفهم شيئاً، فالتفت إلي أحد الجالسين يسأله عن موسوعة تجمع كل ما قيل، فأجابه قائلاً: "لا حاجة لنا إلى أي كتاب فنحن نعرف كل شيء عن القمر"، تلك الإجابة دفعته للبحث والمعرفة، فقررالإعتكاف داخل إحدى المكتبات الضخمة، وعكف على دراسة أكثر من اربعة آلاف صورة طيلة ثلاثة أشهر كاملة.

لم يكد يمر عام واحد حتي تمكن الدكتور فاروق الباز من فهم كل ما يتعلق بجيولوجيا القمر، بل إنه اكتشف أن هناك ما يقرب من 16 موقعاً يصلح لهبوط المركبات علي سطحه، وفي المؤتمر الثاني الذي حضره، وقف على المنصة يعرض ما توصل إليه، وسط تساؤل الحاضرين عن ماهيته، حتى إن العالِم الذي قال له من قبل، نحن نعرف كل شيء عن القمر وقف ليقول: "اكتشفت الآن إننا لم نكن نعرف شيئا عن القمر".

 

دخل الباز تاريخ وكالة ناسا الفضائية، وأوكلت له مهمتين رئيسيتين في أول رحلة لهبوط الإنسان على سطح القمر، الأولى هي اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر، والثانية تدريب طاقم رواد الفضاء على وصف القمر بطريقة جيولوجية علمية، وجمع العينات المطلوبة، وتصويره بالأجهزة الحديثة المصاحبة، وتقديرا لأستاذه بعث "نيل آرمسترونج" برسالة إلى الأرض باللغة العربية، واصطحب معه ورقة مكتوب عليها سورة الفاتحة ودعاء من استاذةه تيمنا منه بالنجاح والتوفيق.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية