أقدم أسواق الشرق وأكبر متاحف القاهرة

"خان الخليلي".. مركز التجارة المملوكي في قلب المحروسة

أحد أحياء القاهرة القديمة، يعد أقدم أسواق الشرق الأوسط، ورغم مرور 600 عام على إنشاؤه، إلا إنه مازال يقف شامخا بطابعه المعماري الفريد، شاهدا على روعة فن العمارة الإسلامية عبر مختلف العصور، الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية.

 

"خان الخليلي".. ذلك الخان الذي وصلت شهرته إلى العالمية، فكل سائح لمصر هو زائر له، فكل ما يقدمه بالنسبة لهم تحفة فنية يجب اقتنائه، قديماً وصفة شيخ المؤرخين المصريين أحمد بن علي المقريزي المعروف باسم تقي الدين المقريزي في أواخر القرن الثامن الهجري، خان مربع الشكل، يحيط بفناء يشبه الوكالة، تشتمل الطبقة السفلية منها على دكاكين أطلق عليها إسم "حوانيت"، في حين تضم الطبقة العلوية المخازن والمساكن، فلم يكن مجرد حي يضم شوارع ودروب، وإنما سوق تجاري كبير، يشبه المتحف المفتوح بما يعرض فيه من منتجات إبداعية.

 

و"الخان" لفظة فارسية الأصل تعني "البيت"، أطلقوها علي كل منشأة تجارية، تتشابه في تصميمها وأشكالها في معظم بلاد الشرق، فنرى أغلبها يتكون من طابق أرضي ذو ساحة كبيرة، قد تكون مكشوفة أو مغطاة، يحيط به أروقة مسقوفة، وفي الخلف توجد حجرات لتخزين البضائع، أما عن "الخليلي"، فيعود إلي مؤسس ذلك الخان، الأمير المملوكي "جهركس الخليلي"، شيخ التجار في عهد الظاهر سيف الدين برقوق، الذي قدم من فلسطين إلى القاهرة جالبا معه تجار من الخليل الفلسطينية، وبدأ في بناء سوق تجاري كبير على أنقاض مقبرة "الزعفران"، وهي مقابر الخلفاء الفاطميين، التي أسست عام 1382 ميلادية، وقام بنقل رفات المعز لدين الله الفاطمي وأجداده إلى خارج أسوار القاهرة.

بمجرد أن تلامس قدميك حجر البازلت الأسود التي رُصفت به أرض الخان، وتري بعينيك العمارة الإسلامي بكل أشكالها، ينتابك شعور يصعب وصفه، خاصة عندما ترى المنتجات الفنية الفريدة التي يزخر بها الخان، فموقعه المتميز ومنتجاته الفريدة، جعلته أشهر المناطق السياحية في قلب القاهرة، بما يحمله من عبق تاريخ القاهرة الفاطمية.

 

يمتد خان الخليلي من أمام مسجد الحسين المواجه لجامع الأزهر، حتى حارة الصالحية، والتي تنتهي بتفرعات من شوارع ودروب وحارات أشهرها وأقربها شارع المعز لدين الله الفاطمي، الذي يحتوي على 112 أثر إسلامي، لذلك يغلب علية مبانيه الطابع الفاطمي، بما فيه خان الخليلي.

 

رغم أن خان الخليلي يعتبر واحدا من بين 38 سوق تجاري أنشأه المماليك، إلا أنه الأشهر والأهم، فكان يقصده التجار من كل بقاع الأرض، فعندما ازدهرت التجارة في العصور الوسطي، أصبح مركز تجاري ترسل إليه البضائع، وفي القرن الـ16 أنتقل إليه أكبر وأشهر سوق للعبيد، وصفوه الرحالة بأنه أهم أسواق النخاسة، نقله السلطان الغوري فيما بعد إلي موقع أخر، وأعاد بناء الخان من جديد، فأصبح يتكون من ربعين وبوابتين من الرخام بهما زخارف إسلامية، ويحمل أحدهما إسمه.

أول ما يلفت الإنتباه لحظة دخول خان الخليلي، تلك اللمسات الفنية التي تُعبر عن العصور المختلفة، فوجهات المنازل المصممة من الأرابيسك مازالت تبرز الطرز المملوكية والفاطمية المختلفة، فيخطفك المشربيات المطلة على الشارع، أما "الأسبلة" التي تسقي عابري السبيل والمارة، والمنتشرة بجميع أنحاء الخان، فوجهاتها مشغولة بالنحاس، في منظر بديع يعكس إيمان المسلمون في العصور الوسطي بأن أعظم ما يؤجر عليه المرء هو ري العطشانين. 

 

داخل خان الخليلي تصطف الأزقة والحواري التي تضم الحوانيت المتلاصقة، كل حانوت يحترف صناعة إحدى المشغولات اليدوية، داخلة أمر الحرفيين الذين أخذوا علي عاتقهم نقل خبراتهم جيلًا بعد جيل، فمن النقش علي النحاس، إلي صناعة السجاد، والخيامية، والمصابيح الزجاجية، والمشغولات الخشبية، يسود فيها طابع الحضارات الفرعونية والقبطىة والإسلامية والرومانية واليونانية، أشكال جمعت بين الإبداع والدقة، وكثيرا ما نري صناع الفن والدراما التاريخية يضطرون للاستعانة بما ينتجونه من إكسسوارات وملابس وسيوف وخوذ في أعمالهم التاريخية.

 

يضم خان الخليلي أكثر من "رَبْع"، أشهرها ربع السلسلة، وربع السلحدار، وربع الصوماتية، بالإضافة إلى مجموعة من الوكالات، وكالة المكواة، ووكالة القطن، وقديما كان يوجد به 9 أبواب، أشهرها باب الذهب الذي كان مخصصا لموكب الخليفة الفاطمي، يليه باب البحر الذي أنشأه الخليفة الحاكم بأمر الله، وباب الريح الذي يصل إلى مسجد الحسين، وقد هدمه الأمير جمال الدين يوسف الاستادار في منتصف القرن الـ14 الميلادي، وباب الزمرد، وباب العيد الذي كان يخرج منه الخليفة أيام العيد، وباب الزعفران الذي مازال في مكانه حتى اليوم، بالقرب منه باب الزهومة الذي كان مخصصًا لدخول أغراض مطبخ القصر.

داخل رَبْع السلحدار عدد من الصناعات المختلفة، كالقطع الآثرية المقلدة من حجر البازلت والمرمر، وأوراق البردي ونقوش الهيروغليفية، والتي في عادة ما تحكي أشهر حكايات المصري القديم، بالإضافة إلي صناعات الزجاج المُعشق، والذي يُطلق عليه "الفيتراي"، ويستخدم في تزيين النوافذ.

 

أما ربع السلسلة، وهو أحد ربوع خان الخليلي، فيزخر هو الآخر بصناعاته، فهناك المشغولات الفضية، والتي تعكس التراث التاريخي، ويفضلها السائح الأجنبي، في حين يفضل السائح العربي المشغولات الذهبية، أما الماس فلمن يستطيع إليه سبيلا، وهناك ايضًا صناعات الأحجار الكريمة، سواء كانت المحلية منها أو المستوردة، كالعقيق والزمرد والفيروز والكهرمان، والتي تدخل في صناعة المجوهرات، والسبح، وإن كانت بعضها يُصنع من البلاستيك وبذر الزيتون، وهو ما يُطلق علية "نور الصباح".

 

أكثر ما يمكن أن يلفت إنتباهك تلك الرائحة الآخاذة، والتي ستتسلل رغمًا عنك إلي أنفك بمجرد دخولك لخان الخليلي، كل خطوة تطأها قدميك برائحة أغلي العطور وأجملها، هنا ستتنفس رائحة "وعل المسك"، ذلك العطر الذي يُستخلص من دم ذكور الغزال، وهناك ستتنفس رائحة "العنبر"، والذي اكتشفه الأفارقة منذ ثلاثة آلاف عام، ويستخرج من جوف حوت العنبر أشهر الحيتان، بالإضافة إلى البنفسج والعطور المستوردة من السودان، والعطور الغير مألوفة ذات الألوان البترولية والزيتية.

كان لروائح البخور نصيبًا مما يجذب الزائرين إليه، فغالبًا ما يجذب إلي حوانيته المتعددة الراغبين في القضاء على "عين الحسود"، ليجدوا ضالتهم في المستكة والفك والفكوك، والذي يستخدمونه إيمانا منهم في تأثيره المضاد لكل أنواع السحر والشعوذة، يجاورها عشرات الحوانيت المتخصصة في بيع مختلف أنواع العطارة، سواء لبيع توابل الطهي المعتادة، أو لبيع وصفات العلاجي الشعبية الأخري.

 

لا يمكن أن تذهب إلي خان الخليلي دون أن تستريح قليلًا داخل أحد أشهر المقاهي المصرية قاطبة، مقهي الفيشاوي، ذلك المقهي الذي يُعد أحد أقدم مقاهي القاهرة، أنشأها "فهمي علي الفيشاوي" فتوة الجمالية عام 1772، ولكنها لم تكتسب شهرتها سوى في منتصف القرن العشرين، عندما بدأ الكاتب المصري نجيب محفوظ يتخذها معقلا لأروع كتاباته، ومنها خرجت رواية خان الخليلي، وبين القصرين، تلاها استقبال مشاهير العالم، كالعالم المصري أحمد زويل، والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، والرئيس اليمني على عبدالله صالح، والرئيس السوداني جعفر النميري.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية