اختاروا إزيس وحتحور رمزًا للأمومة

"عيد الأم".. احتفل به المصري القديم منذ سبعة آلاف عام وورثة الأحفاد

"الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعب طيب الأعراق".. تعد هذه الأبيات التي خرجت على لسان الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم في قصيدة "العلم والأخلاق"، أكثر ما وصف مكانة الأم ودورها في بناء المجتمعات والحضارات، وإن كان المصريون القدماء رفعوها إلى مصاف أكبر لتصل إلى مكانة الآلهة.

 

وقد جاءت نقوش المعابد المصرية، لتُظهر لنا مدى تقديس المصري القديم للأم، كما عثر الأثريون على العديد من البرديات التي تُبرز تلك المكانة، لدرجة أنهم خصصوا له يومٍ للإحتفال به، بل ورفعوها إلى مصاف الآلهة، كالآلهة "حتحور" ربة الحب والأمومة، والآلهة "إيزيس" ربة الأمومة الأكثر شهرة، فهي التي حاربت طويلا من أجل استعادة جسمان زوجها "أوزوريس" وحق أبنها "حوريس"، وقد أقيم لها العديد من التماثيل التي تصورها وهي تحتضن طفلها وترضعه، والآلهة "تاورت" ربة الحمل والولادة والخصوبة، أما المعبود "بس" فكان رمزا يبعد الشر عن الأم وطفلها الرضيع.

وفي 21 مارس من كل عام، يحتفل الأحفاد بعيد الأم، يقدم الأبناء الهدايا تعبيرا عن حبهم لها، وتكريمًا لما بذلته وتبذله في سبيلهم، وقد كشفت البرديات التي عثر عليها الأثريون أن المصريون القدماء كانوا يحتفلون بذلك اليوم، فتطوف المواكب المزينة بالزهور حول المدن، وأطلقوا علي هذا اليوم الكثير من الأسماء، كعيد الأم المقدس، وعيد أم الوجود، وعيد أم الحياة، وعيد الأم الجميلة، تلك الأم التي اعتادت أن تضحي براحتها لرعاية صغارها، وتبذل جهدها في نحت وتكوين شخصيتهم بطريقة تجعلهم أعضاء صالحين لبناء المجتمع، إنها نهر العطاء المتدفق الذي لا يجف ولا يشكو ولا ينتظر مقابل لما يفعله.

 

بسبب تلك المكانة، حصلت المرأة المصرية على حريتها الكاملة في تكوين أسرة جديدة بكامل إرادتها واختياراتها دون أدنى أجبار، حتى تتمكن من رعاية زوج وبناء جيل جديد، فأصبحت "ربة المنزل" المسئولة عن أمور زوجها، وقاسمته في كل شئ يمتلكه من الطعام والشراب إلى العمل والأملاك وحتى في قبره، وكان التعليم المصري القديم يعلم الرجل كيفية الاهتمام بزوجته وتوعيته لضرورة إحترامها، حتى إنه كان يزرع في الأطفال أن الأم هي الأقرب من الرب الأعظم، لذلك إذا أراد شيئا يتحقق عليه أن يلجأ إلى أمه لتدعي له، وفي ذلك قال بعض الحكماء القدماء "إن دعاء الأبناء لا يصل إلى آذان السماء إلا إذا خرج من فم الأمهات".

 

وتعد بردية "آني" من أكثر البرديات التي أظهرت احترام الزوج لزوجته، فبها ينصح ذلك الحكيم أبنه بطاعة أمه واحترامها، لأن الرب هو الذي أعطاها له، وهو الذي دفعها لتكون رقيقة وحنونة ومضحية براحتها دون انتظار مقابل، فقد تحملت حمله تسعة أشهر، وأرضعته وطببته وعلمته حتى استقر بمنزله الجديد مع زوجته، كما أن اختيار موعد عيد الأم منذ العصور الفرعونية كان توقيتا عظيما، ففي ذلك الوقت من شهر مارس تكون الأرض الخصبة مجهزة تماما لنثر البذور، فتنبت وتبعث الحياة من جديد، هنا شبهوا الأم بنهر النيل الذي يهب الحياة والخير.

 

أُهمل عيد الأم سنوات طويلة، حتى أُعيد فكرة الإحتفال به مرة أخرى على يد الأخوين مصطفى وعلي أمين، مؤسسي دار أخبار اليوم، ففي عام 1943 تلقى "علي أمين" رسالة من أم مصرية تشكو فيها جفاء أولادها وسوء معاملتهم لها، فدعي مصطفى أمين في كتابه "أمريكا الضاحكة" لعودة الاهتمام بالعيد تكريما للأمهات، إلا إنهم واجهوا سخرية المجتمع، وفي عام 1956 بدأ المجتمع المصري ينتبه لما قاله مجددا ليصبح "عيد الأم" يوما للإحتفال، وأختاروا نفس التوقيت الذي كان يحتفل به في العصور السحيقة ليكون فصل الربيع رمزا للمشاعر الطيبة، ومنها انتقلت الفكرة لباقي العالم العربي.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، ظهرت أولي الاحتفالات بالأم خلال عامي 1870 و1872، أقامتها الناشطة الإجتماعية "جوليا وارد" لتحقيق حلم أمها التي كانت ترغب بالاحتفال بجميع أمهات العالم، وخلالها دعت السيدات للمطالبة بإقامة عيدا للأم بهدف دعم ونشر السلام في العالم، إلا أن تلك الاحتفالات لم يظهر لها أي صدى سوى على المستوي المحلي، وبين عامي 1880 و1890 حاول الكثيرون الإعتراف به كعيد رسمي، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، حتى قامت "آنا جارفيس" ذكرى لوالدتها عام 1908، ومنها بدأت بحملة موسعة لجعله عيدًا رسميًا معترفًا به، وفي عام 1914 نجحت في ذلك، لتترجم ما كانت تقوله أمها بأن "في وقت ما، وفي مكان ما، سينادي شخص ما بفكرة الاحتفال بعيد الأم"، وفي عام 1920 اتهمت باستغلال العيد والمتاجرة به، ما أثار إحباطها.

 

رغم ذلك يرجع تسمية "عيد الأم" إلى آنا جارفيس، ففي عام 1912 أنشأت الجمعية الدولية يومًا للأم، وأكدت أن المصطلح "أمهات" يجب أن يكون بصيغة المفرد وليس بصيغة الجمع، ليكون عيدا لكل أم وحدها مع أسرتها، ولقد استخدم رئيس الولايات المتحدة الأسبق "وودرو ويلسون" ذلك المسمى في القانون كعيد رسمي في أمريكا، ومن بعده أشار إليه رؤساء آخرون في إعلاناتهم بإسم "عيد الأم" وليس "عيد الأمهات".

 

لم يتفق العالم على موعد موحد لعيد الأم، فهو يختلف من دولة لأخرى طبقا لثقافة ورؤية وتاريخ كل مجتمع، ففي مصر والعالم العربي اتفقوا على اليوم الأول من فصل الربيع، كما كان متبع في العصور الفرعونية، بينما يحتفل به في النرويج يوم 2 فبراير، وفي الأرجنتين يوم 3 أكتوبر، وفي جنوب أفريقيا يوم 1 مايو، في حين رأي المجتمع الأمريكي أن يوم الأحد الثاني من شهر مايو هو الأنسب للاحتفال.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية