ظهرت كحرفة تجارية منذ أكثر من 5300 عام

"قرية الفواخير".. فن تحويل الطين إلي تُحف تحكي قصة التاريخ

في منطقة مصر القديمة، وتحديدًا بمدينة الفسطاط، خلف مجمع الأديان، تقع قرية الفواخير المصرية، تلك القرية التي ورثت واحدة من أقدم وأهم الحرف التي خلدت حضارة المصري القديم، وربما حضارة الإنسانية كلها، حينما استغلوا ما يقدمه النيل لهم من هدايا، ممثلة في الطمي الأسواني في صناعة أجمل الجواهر الطينية.

 

"فن تشكيل الطين وتحوليه إلي جواهر وتُحف فنية تحكي قصة التاريخ".. تلك هي أول عبارة ستسمعها بأذنيك من تلك الطفلة الصغيرة، والتي رغم أنها لم تتجاوز التاسعة من عمرها، تجوب القرية طيلة نهار كامل حاملة بعض الفواخير لنقلها بين العمال، هي تعتقد ذلك، تري أنها تعمل في أرض لتخليد فن مصري قديم، يُعتقد أنه بدأ قبل عصر الأسرات بآلاف السنين.

أثناء تجولك بقرية الفواخير، سليفت بتأكيد نظرك ذلك حرفي، والذي خرج من دائرة كونه صانع لحرفة إلي فنان تشكيلي، فأضحي "فخراني" لقبه الذي يعشق حروفه دليل علي الفخر والإعتزاز بمهنة يري أنها فن، فتجدهم منهمكون منغمسون بعيون أصابها التركيز، وبأيادي سمراء تضخمت فيها العروق، ساعين لتحويل ذلك التراب إلي ذهب من طين.

منذ عشرات القرون، وربما أكثر من ذلك، عرف المصري القديم صناعة الفخار، وطيلة تلك العصور التاريخية إزدهرت تلك الحرفة، وخلفت وراءها تراثًا ثريًا يزخر بالتحف الفنية الأنيقة، فشكلت من الطين روائع جمالية تقدم شهادة حية على ارتقاء الثقافة، ورقى الحضارة، وجمال الفن على امتداد المكان ومر الزمان، فأضحت صناعة تتوارثها الأجيال وتفخر بها أكبر وأعرق المتاحف الأثرية في العالم.

داخل قرية الفواخير ستجد كل شيء يستحق اقتناءه، كل شيء يمكن استخدامه في حياتنا الشخصية، منها ما يشكل تحفًا وأعمالًا فنية، ومنها ما يمكن استخدامه للأغراض الحياتية، فهناك أوان لحفظ السوائل كالقدرة والزير والجرة، وأوانى الطهى كالأبرمة، والطواجن، والصوانى وأوانى تخزين الغلال كالصوامع، وأوانى الشرب كالقلل والأباريق، وأوانى الطعام كلأطباق، السلاطين، الزبدية، وغيرها من الأشكال الفنية، وبالطبع تختلف تلك الاشكال طبقًا لإختلاف الطين المصنع منه، فهناك نوعان من الطينة، نوع يأتى من رواسب النيل، وينتشر فى أغلب أرض الصعيد والدلتا، ونوع آخر شديد النعومة تزداد فيه نسبة كربونات الكالسيوم التى جرفتها السيول من الهضبات الجيرية.

يري المؤرخون أن صناعة الفخار اليدوي لم تختلف كثيرًا بإختلاف العصور، أو بتطور الحضارة نفسها، وأنها مازالت تحتفظ بالكثير من طرق الصناعة، من تجهيزات للخامة الطينية، لمراحل التشكيل المختلفة، مرورًا لمراحل التجفيف، وصولًا إلي الحرق، ويستخدم في ذلك نفس الأدوات أو ما يشبهها عبر العصور المختلفة، من الدولاب اليدوى أو العجلة، والقوالب، وغيرها من الأدوات اليدوية.

أما عن الحرفة نفسها فتختلف بإختلاف نوعية الطمي نفسها، ولكن بصفة عامة يتم خلط المياه مع نوعية الطين فى حوض التصفية، وهو حوض مبطن لمنع تسرب المياه، ثم ينقل الخليط بعد تنقيته من الشوائب إلى حوض التنشير، وهو حوض يسمح بتسرب المياه، ويترك الخليط أسبوعا صيفًا وأسبوعين فى الشتاء حتى يجف، بعدها يتم تقطيع الطين إلى قطع كبيرة، ثم يتم نقله إلى ما يسمى بيت الطين، والذي يُعد الموضع الرئيسي الذي يتم تخزين المادة الخام منه، تلك الطريقة تم استخدامها المصنع الملكى فى الأسرة الفرعونية الأولى، أي منذ 5300 سنه مضت.

طيلة عشرات القرون من التاريخ المكتوب، تعرض فن صناعة الفخار للعديد من المراحل، من الإزدهار والإضمحلال، من النمو إلي الركود، خاصة مع ظهور الصناعات الزجاجية في بداية عصر الدولة الحديثة، والتي بدأت عام 1550 قبل الميلاد، ولكنها رغم ذلك صارعت تلك الظروف، فبدأ الحرفي يجفف ما صنعت يديه بحرارة الشمس، ومع اكتشاف النار تم التجفيف بالحرق في أفران، وفي مصر يختلف اسم الفرن من مكان لأخر، ففي أسوان علي سبيل المثال يُطلق علية إسم "التنورة"، وفي المنيا "الكوشة"، وفى قنا "الفاخورة"، في حين يُسمي في القاهرة "القمينة"، وكانت الرسومات والصناعات الفخاريه تمثل مخطط زمني لتسلسل العصور، وذلك بالطبع قبل ظهور الكتابة، وحتي بعد ظهور التقويمات المصرية المختلفة.

"إسماعيل وجنا".. أجمل ما يمكن أن تراه عيناك داخل قرية الفواخير، فرغم تلك الحالة التي يعتقد البعض بخطورتها عليهما، إلا أن مجرد المرور عليهما ستجعلك تعتقد أنهما يعيشان في أجمل مكان صنعا داخله جنتهم، براءة وجوههم، ابتسامتهم الواسعة تنبئان بذلك، تجدهم يلهون هنا وهناك، لا يمنعهم غبار الفخار، ولا يروعهم ضجيج تلك العجلات، ولا يلتفتون لصيحات الفخرانية الغاضبة، كل ما يهمهم جمع أكبر كمية ممكنه من الطمي الأحمر، ليقوموا بتشكيله بأصابعهم الرقيقة، وكأنهم يرثون تلك الحرفة الفنية كما فعل أجدادهم، وأجداد أجدادهم، وكما سيفعل أحفادهم في المستقبل القريب.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية