أهم ميناء تجاري لأربعة قرون كاملة

"مدينة عيذاب".. أقدم طرق الحج القديمة علي البحر الأحمر

تقع جبال عيذاب في أقصي جنوب الصحراء الشرقية لجمهورية مصر العربية علي البحر الأحمر، وعلي بُعد 24 كيلو مترًا شمالي مدينة حلايب، وهي تعرف أيضاً بإسم عيداب، ويقال إن عيذاب هو أسم نوع من الأعشاب باللغة البجاوية ينمو بكثرة في منطقة عيذاب، وطبقًا لما أكده المقريزي كان أهم ميناء مزدهر يربط مصر بموانئ اليمن مع الهند والبحر الأبيض المتوسط، وظل أهم موانئ الحجاج إلى مكة لمدة أربعة قرون من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر الميلادى، وخاصة بعد أن أغلق الصليبيون الحج عن طريق الشام.

 

بدأت عيذاب كنقطة لتلبية احتياجات عمال المناجم في الصحراء الشرقية، ثم صارت ميناءً رئيساً ومحطة للسفن القادمة من الهند وشرق أفريقيا وجنوب الجزيرة العربية، في عام 845 ميلادية سيطر بنو يونس، وهم فرع من قبيلة بني ربيعة، على عيذاب، ولكنهم أُجبروا على التراجع للحجاز، وذلك بعد معركتهم مع أبناء عمومتهم بني بشر، والذين ركزوا سيطرتهم على منطقة المناجم عن طريق التزاوج مع قبائل البجا، وهم السكان الأصليين للمنطقة، وفي نهاية القرن العاشر الميلادي، أصبحت عيذاب ميناء المناجم والسفن القادمة من خارج القارة الإفريقية، كما كانت لها صلات داخل القارة السمراء.

طيلة قرون عديدة تعرضت عيذاب للكثير من الهجمات، وخاصة من مستوطنوا الصحراء الشرقية قبائل البدو "البجا"، فكانوا يغيرون علي المدينة ويسلبون بضائعها ويسرقون أهلها، ففي عام 1118 هاجم "قاسم بن أبي هاشم" حاكم مكة المدينة، واستولي علي البضائع المخزونة به، وقد هدد "الأفضل" حاكم مصر الأيوبي بالانتقام بهجمة تبدأ قواتها من عيذاب وتنتهي في جدة، وفي عام 1181 ميلادية هاجم البرنس "أرناط" الصليبي حاكم الكرك بالشام المدينة، ودمر 16 سفينة كانت في الميناء، وقد طارده قائد الإسطول المصري "حسام الدين لؤلؤ" وهزم القوات الصليبية وهم في طريقهم لتخريب المدينة المنورة.

وفي عام 1272 كانت عيذاب علي موعد أخر من الهجمات، ولكنها جاءت هذه المرة من الجنوب، حيث قام الملك النوبي "داود" بحملة ضخمة علي المدينة وقتل واليها وقاضيها قبل أن يعود إلأي دنقلا مصطحبًا معه عدد كبيرًا من الأسري، وكان من نتيجتها قيام الظاهر "بيبرس" بحملة كبري علي بلاد النوبة هزت أركان العرش النوبي، وفي عام 1426 قام السلطان "برسباي" بتدمير عيذاب، والغريب أن هذه الحادثة لم تُسجل في أي كتاب كتبه مؤرخ عربي باستثناء ما كتبه الحسن الوزان "ليو الإفريقي".

استمرت عيذاب بعد خرابها مجهولة الموقع، حتى جاء إلي مصر "ثيودور بنت"، Theodore Bent، عام 1896 ميلادية، ليقوم برحلة من مرسى حلايب متجهاً نحو الشمال، حيث وجد على مسافة عشرين كيلومتراً آثاراً تشرف على البحر، وبعد دراسته لتلك الآثار رجح أنها تعود إلى مدينة عيذاب، وفي عام 1925 استكمل "جون موراي"، John Murray، أبحاث ثيودور، فقام بالتنقيب عن بقايا مدافن ومساكن الموقع، واستطاع أن يعثر على بقايا المسجد الذي وصفه ابن بطوطة، وإستنادًا على تلك الشواهد ونتائج أبحاثة، قرر موري أن هذه الآثار هي بقايا مدينة عيذاب.

لكن يبقي السؤال الأهم، ما هي الأسباب التي أدت إلي ازدهار مدينة وميناء عيذاب، وكيف تحولت تلك المدينة الصغيرة من ميناء صغير يخدم النشاط التعديني في الصحراء الشرقية، إلى ميناء رئيسي على ساحل البحر الأحمر، فوفقًا لكتابات الرحالة والمستكشفين، كان لتدهور الأوضاع في مصر أيام الخليفة المنتصر بالله الفاطمي دورًا في تحول القوافل التجارية إلى عيذاب، وكان للحملات الصليبية وتأثيرها علي سيناء والشام دوره هو الأخر في تحول قوافل الحجيج من طريق سيناء إلى عيذاب، وهو ما أكده المقريزي في "المواعظ والاعتبار"، وأنه ذلك قد استمر لمدة تزيد عن المائتي عام.

في كتابه "سفرنامه"، والذي صُدر عام 1088، وصف ناصر خسرو علوي مدينة عيذاب، حيث قال: وفي العشرين من ربيع الأول سنة 442 هـجرية بلغنا عيذاب، ومن أسوان حتى عيذاب 15 يوماً، تقع مدينة عيذاب على شاطئ البحر وبها مسجد جمعة، سكانها خمسمائة، وهي تابعة لسلطان مصر، يذكر ابن الوردي أنه على عامل مصر القيام بطلب الأرزاق، وعلى عامل البجا حمايتها من الحبشة، فيها تحصل المكوس على ما في السفن الوافدة من الحبشة وزنجبار واليمن، ومنها تنقل البضاعة على الإبل إلى أسوان، ومن هنالك تنقل بالسفن إلى مصر في النيل، وعلى يمين عيذاب ناحية القبلة جبل من خلفه صحراء عظيمة، بها مراع واسعة وخلق كثيرون يسمون البجا، يشتغلون بتربية ماشيتهم، ليس في مدينة عيذاب الصغيرة غير ماء المطر، فلا بئر فيها ولا عين، فإذا لم تمطر السماء، أحضر البجا الماء وباعوه.

أما إبن بطوطة، فقد وصفها هو الأخر في كتابة "غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وذلك في 1377 ميلادية، فقال"ولما وصلنا مدينة عيذاب، وهي مدينة كبيرة كثيرة الحوت واللبن، ويحمل إليها الزرع والتمر من صعيد مصر، وأهلها البجا وهم سود اللون، وبمدينة عيذاب مسجد ينسب إلى القسطلاني شهير البركة، رأيته وتبركت به، وبها الشيخ الصالح موسى، والشيخ المسن محمد المراكشي، والذي زعم أنه ابن المرتضى ملك مراكش وأن سنه 95 سنة.

 

لم يفوت المقريزي الفرصة فقام بذكر مدينة عيذاب في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" سنة 1445 ميلادية، حيث قال: "عيذاب مدينة على ساحل بحر جدة، وهي غير مسورة، أكثر بيوتها أخصاص، وفيها مستحدث بالحصى، كانت عيذاب من أحفل مراسي الدنيا، بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها البضائع، وتقلع مع مراكب الحجاج الصادرة والواردة، ولما انقطع ورود مراكب الهند واليمن إليها، صارت المرسى العظيمة عدن من بلاد اليمن، وعيذاب صحراء لا نبات فيها، وكل ما يؤكل بها مجلوب إليها حتى الماء، وكان لأهلها على الحجاج والتجار فوائد لا تحصى، وكان لهم على كل حمل دقيق يحمله الحجاج ضريبة مقررة، في بحر عيذاب مغاص على اللؤلؤ في جزائر على مقربة منها، وأكثر هلاك الحجاج بهذا المرسى، ومنهم من تساعده الريح فتحطه بمرسى عيذاب"، كما ذكر أن حجاج مصر والمغرب أقاموا زيادة عن مائتي سنة لا يتجهون إلى مكة إلا من صحراء عيذاب، وأن هذا في الفترة ما بين 450 هجرية وحتى 660 هجرية، الموافق 1058 ميلادية حتي 1261 ميلادية.

لمدينة عيذاب أهمية دينية أخري، تتمثل في نقل كسوة الكعبة، ففي عهد الفاطميين، وتحديدا فى توقيت الحروب الصليبية وعقبها، كانت تمر كسوة الكعبة من خلال مراكب من القاهرة فى نهر النيل، وصولاً إلى مدينة قوص جنوب مدينة قنا، ثم يتم حمل كسوة الكعبة على هوادج الجمال، وتسلك طريقها فى الصحراء متوجهة لميناء عيذاب، ثم يتم تحميلها على المراكب وتسلك طريقها فى البحر متوجهة إلى بلاد الحرم المكى، واستمر ذلك الوضع حتي عهد المماليك، إلا أنها كانت تبحر للأراضى المقدسة من ميناء القصير القديم.

 

مؤخرًا طالب العديد من شباب حلايب وشلاتين المهتمين بتاريخ قبائلهم، تسجيل مدينة عيذاب وميناءها والطريق الأثرى والتاريخى الذى كان يسلكه الحجاج بقائمة التراث الثقافى بمنظمة اليونسكو.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية