ثلاثة أنواع من الأوبئة ضربت المواني والقري

من الملاريا إلي كورونا: تاريخ من الأوبئة علي أرض المحروسة

"عقابًا من الآلهة إصابت الإنسان دون غيره من الكائنات الحية.. عقابًا سلط بعوضة لتقضي علي ذلك الشر الذي سيطر علي بلادنا".. هكذا عبر المصري القديم منذ أكثر من 3500 عام مضت، حينما أصيبت أرض مصر بوباء الملاريا، وباء قضي علي الكثير من القري والمدن، وبلغت قوته أن قضت علي الملك توت عنخ أمون، وذلك طبقًا لنتائج تحليل الحمض النووي والمسح بالأشعة المقطعية لمومياء الملك، والذي توفي عام 1325 قبل الميلاد، والتي أثبتت وفاته متأثرًا بمضاعفات مرض الملاريا، وهو ما أكده الدكتور زاهي حواس، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار.

 

ورغم أن الملاريا لم تترك أي أثر مرئي علي الممياوات، إلا أن تحاليل الحمض النووي لها، أكدت وجود ثلاث جينات لطفيلية تسبب الملاريا لدى 4 موميات، من بينها مومياء توت عنخ آمون، وهو ما يجيب علي بعض التساؤلات المهة حول عادات المصريين القدماء، أهما الأسباب الحقيقية التي دعت تناول بناة الأهرامات لكميات كبيرة من الثوم؟، ربما لحمايتهم من الملاريا، وجدوي استخدام الملك سنفرو مؤسس الدولة الرابعة، والذي حكم في الفترة 2613-2589 قبل الميلاد، وكليوباترا، والتي حكمت في الفترة 44-30 قبل الميلاد، للناموسية؟، هل لتجنب قرصات البعوض؟، ولكن الأكيد أن وباء الملاريا انتشر في مصر قبل 2800 عام.

العديد من البرديات المصرية القديمة، وعلي رأسها برديات، تشستر بيتي الطبية، الراميسيوم الطبية، كاهون، إدوين سميث، هاريس، إيبرس، لندن، برلين، كارلسبرج، بروكلين، بروغش، أكدت ممارسة المصريين لما يسمي بـ"الطب الوقائي" للحماية من الأمراض المعدية، خاصة بعد إصابة ووفاة عدد كبير من سكان مدينة تل العمارنة بمرض الملاريا، كما أثبتت نجاح الطبيب "الكاهن سخمت" في وضع علاج لأمراض الملاريا والجدري، كما تشير بردية إيبرس والممارسات الطبية، والتي تعد أقدم وثيقة علاجية في التاريخ يعود عمرها لأكثر من 3500 عام.

 

كانت طرق الوقاية التي إتبعها المصري القديم لا تختلف عن وسائل اليوم، فقد لجأ المصري القديم إلى المياه كوسيلة تحميه من الإصابة بالأمراض، ما جعل نهر النيل شيئا مقدسًا، والحفاظ عليه جزءًا من العقيدة المصرية القديمة، فقد كانت النظافة طقسا يمارسه المصري القديم باستخدام المياه في التطهير من الأمراض، وأصبح غسل الأيدي والملابس والمأكولات درعا أولى للحماية من الأوبئة، وامتد استخدامه للمياه لتعقيم المعبودات والملوك ونثرها أمام المنازل والبيوت كرمز للحياة بصحة جيدة دون أمراض معدية، كما برع في تصميم منازل للطبقة العامة بحمامات مخصصة للاغتسال وأخرى لقضاء الحاجة، وحرص على تشييدها في نهاية ممر بالمنزل، بينما في منازل وقصور طبقة الأغنياء شيد بركة المياه.

 

  • البرديات تناولت "الطب الوقائي" للحماية من الأمراض المعدية.. وإيبرس أقدم وثيقة علاجية في التاريخ.

 

طبقًا للنقوش والبرديات، أدرك المصري القديم أن الحشرات الضارة وروث الحيوانات مصدر لنقل البكتيريا والفيروسات، لذا اهتم بتعقيم منزله بالأعشاب والبخور، إضافة إلي تعقيم الصناديق الحافظة لأحشاء المتوفى بعد تحنيطه، كما اتبع كل طرق الوقاية من الفيروسات والبكتيريا، بتخصيص ثلاثة مرات للنظافة والاستحمام للطبقة العامة، وخمسة مرات للكهنة باستخدام ملح النطرون والزيوت المستخرجة من النباتات، إضافة لعادة حلق شعر الرأس والجسم للعامة مرة واحدة في الأسبوع وكل يومين للكهنة، ما يفسر وجود البحيرات بالمعابد.

 

لم يكن الطاعون من الأوبئة المعروفة في مصر القديمة، وذلك بالطبع طبقًا للمصادر والنقوش التي نعرفها اليوم، وقد يكون الطاعون هو المرض المسمى فى البرديات المصرية الطبية "تا نت عامو" أى المرض الآسيوى، وإن كانت تلك المعلومة غير مؤكدة، حتي إننا لا نعلم السبب الحقيقي التي من خلاله نسب المصريين القدماء هذا الوباء إلي آسيا، كما ذكرت البرديات بعض المصطلحات عن الاوبئة، مثل "رنبت إيادت" أي "عام الوباء"، وكان مرتبط بالربة "سخمت"، الإلهة التى كانت تجسد الغضب الإلهى، وتشير برديات من العصر الرومانى إلى الإجراءات التى اتخذها كاهن المعبد، كاهن سخمت، لفحص اللحوم والمواشى، والحماية من العدوى.

"الوباء الأصفر.. ذلك الوباء القادم من الشرق".. لم تقتصر مواجهة المصريين للأوبئة في العصر القديم، ولكن في العصر الوسيط أيضًا عانت من بعض الهجمات الوبائية، ففي عام 1344 إجتاح الطاعون العالم، وبعد ثلاثة سنوات ضرب مصر، عن طريق التجار الايطاليين في مدينة الاسكندرية، وذلك في عصر دولة المماليك البحرية خلال فترة حكم الملك الناصر حسن الأولي، بدأ في أكتوبر من العام 1347 حتى يناير 1349 ميلادية، وطبقا للمؤرخ المصري الشهير "ابن إياس"، كان يخرج من القاهرة كل يوم ما يزيد على 20 ألف جنازة، وبلغ عدد من ماتوا بين شهرى شعبان ورمضان نحو 900 ألف نسمة،  وتضررت الأراضي الزراعية وقلت المحاصيل الزراعية جراء موت الفلاحين.

 

وقد رصد المؤرخ المصري هروب العديد من المماليك بقيادة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، ولم يكن يبلغ من العمر أحد عشر عامًا في ذلك الوقت، من القاهرة إلى القرى الخالية من الطاعون شمال المدينة وجنوب الدلتا، ومع ذلك قرر معظمهم في السنوات الأخيرة أنه من الأفضل البقاء في القلعة للدفاع عن مصالحهم ضد غدر المماليك المنافسين والمتمردين، وفي عام 1562 ميلاديا، ضرب الطاعون ميناء الإسكندرية، ثم انتقل الوباء إلى دمنهور وحوش عيسى بالبحيرة، ومنها انتقل إلي القاهرة، وقد حصد الوباء أرواح مئات الآلاف من المصريين، وطبقًا للمؤرخين ارتبط ظهور الكوليرا بقلة مياه النيل.

 

  • سنفرو وكليوباترا استخدما "الناموسية" لحماية أنفسهم من الملاريا.. وبناة الأهرامات تناولوا الثوم للوقاية.

 

وفي عامي 1696 و1696 هاجم الطاعون مصر للمرة الثانية، وكان عبارة عن زكام يفتك في الأسابيع الأولى بما يتراوح ما بين مائة إلى مائتين في اليوم الواحد، وكان يشتد فتكه عندما يشتد البرد، وتحكى الحوليات المعاصرة عن ضحايا كانوا يبصقون دما، ويعد ذلك مؤشرا على الطاعون الرئوي المميت، وطبقًا للمؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، فإن العديد من الأثرياء والأمراء وكبار التجار وآخرين، كانوا يشاركون في دفن عدد كبير من الموتى بالطاعون في المقابر الشرقية والجنوبية.

 

مرة أخرى هاجم الطاعون ديار مصر في عصر إمارة المملوكي إسماعيل بك الكبير عام 1791، لذا أطلق المؤرخين علي ذلك الوباء إسم "طاعون إسماعيل"، وطبقًا للإحصاءات قضى الوباء علي ثُلث سكان القاهرة، والتي كان عددها قرابة 260 ألف نسمة، فقد بلغت أعداد الوفيات حوالي 2000 حالة وفاة يوميًا، أي أن حالات الوفاة تخطت حاجز 86 ألف نسمة، وكان بينهم إسماعيل بك نفسه.

 

 

بعد أقل من 9 سنوات، وتحديدًا في عام 1800، وفي أثناء وجود الحملة الفرنسية في مصر، ومحاولة دخول الشام، وحينها قتل نابليون عددا كبيرا من الأسرى وترك الجثث تحللت في الشوارع ما أدى إلى إصابة جنوده بالوباء، ونقله إلى مصر، وتوفي حينها ما يقرب من 75 ألف شخص في القاهرة و125 ألفا في المحافظات لتكون حصيلة ضحايا الفيروس 200 ألف مواطن، ويعتقد المستشرق السويسري جون لويس بوركهارت، والذي توفي في القاهرة عام 1933 نتيجة مرض مجهول، أن الطاعون ظل في مصر لأكثر من 16 سنة من الـ50 عامًا، وذلك خلال الفترة من عام 1750 حتي عام 1800، وبمجيء محمد علي باشا، تغيرت المواجهة بعدد من الإجراءات القوية ساهمت في القضاء علي الطاعون.

 

كان محمد علي باشا، رغم استبداده كان مستنيرًا، يدرك أهمية الرعاية الصحية للمواطن المصري الذي سيبني مملكته، لذا كان ملتزما بمفهوم النظام في زمن أزمة المرض، وفي عام 1812 وبعلمه بظهور الطاعون في إسطنبول، فرض حجرًا صحيًا بحريًا على السفن التركية، فلم يدخل الطاعون مصر، كما قام بإنشاء أول نظام صحي قروي تدعمه الحكومة في عالم البحر المتوسط، ولكي يقدم تغطية صحية قروية شاملة، استقدم المستشارين الطبيين الأوربيين في الممارسات الإكلينكية، يتقدمهم الطبيب الفرنسي أنطوان كلوت باشا، والذي اسس في عام 1827 المستشفى التعليمي الأول على النمط الأوروبي في مصر، وهو مستشفى قصر العيني، ورغم ذلك دخل الطاعون مصر عام 1834 من خلال المواني المصرية المطلة علي البحر المتوسط.

 

  • الملاريا أول وباء ضرب مصر في عصر الأسرات.. والكوليرا هاجمت مصر ثلاثة مرات في نصف قرن.

 

وقد أكد المؤرخين المعاصرين أن مدينة الأسكندرية كان أول المدن إصابة بالطاعون، ونتيجة للاحتكاك مع الغرب الذي يمتلك خبرة مواجهة الأوبئة، لذا تم تطبيق مبدأ العزل علي الحالات المصابة، وتم إنشاء مراكز الحجر الصحي في حافة المدينة، وكان كل من يخالف قرار الابلاغ عن مُصاب أو متوفي بالطاعون يتعرض للقتل بالرصاص، وفي نهاية عام 1837 توفي ما يقرب من 75 ألف قاهري، و125 ألف مصري آخرين، وبعد خمسة سنوات عاد الطاعون من جديد عام 1841، عندما انتشر الوباء في شمال مصر، وقد أخفي أهلي القري المصابة امر الوباء خوفًا من إجراءات الحكومة المصرية، وفي إحدي قري الغربية قام الأهالي الناجون بقتل الجنود الذين أرسلهم محمد علي، ولعدة ساعات منعوا القوات المعززة حتى من استرداد جثثهم، في حين نجحت القوات في قري أخري في السيطرة علي المصابين.

 

كانت عملية المواجهة تتم بكل حزم وقسوة، فقد تم فرض تدابير قوية جدا ضد الطاعون، فقد كان يتم عزل القرية بأكملها دون دخول أو خروج أي شخص، وكانت لدي الجنود أوامر بإطلاق النار وقتل من يخالف ذلك، وداخل القرية كان يتم حرق ملابس المصابين، وفصل المصابين بيعضهم البعض، استمر المشهد بهذا الشكل حتي أواخر عام 1844، لتصبح مصر بعدها دولة خالية من الطاعون.

أما الكوليرا فقد هاجمت مصر ثلاثة مرات، بدأت في عام 1883 لتستمر طيلة ستون عامًا، وذلك حتي عام 1947، ظهر للمرة الأولى في مدينة دمياط في يونيو 1883، حينما رست سفينة بريطانية بها أحد الموظفين المُصابين بالوباء، ثم انتقلت منها لباقي المدن المصرية، وطيلة ما يقرب من 35 يوم حصدت الكوليرا ما يقرب من 150 ألف مصري، بينهم حوالي رُبع سكان ميناء الأسكندرية، وفي عام 1902 ضربت الكوليرا مصر من جديد، وبدأ المرض في قرية "موشا" بمحافظة أسيوط.

 

في 15 أغسطس 1947، تفشت الكوليرا في الهند، وكانت القوات البريطانية تتخذ من قناة السويس محطة للاستراحة قبل الانتقال إلي بريطانيا، وقد تسبب الجنود البريطانيون الحاملون للمرض في نقل العدوى إلى مصر، لذا ظهرت أولي ملامح الوباء في 18 سبتمبر من نفس العام، وتحديداً في قرية القرين بمحافظة الشرقية المتاخمة لمعسكرات الإنجليز، عندما أصيب اثنان من الفلاحين بالإسهال والقيء، وعندما توجها إلى الوحدة الصحية في القرية، تم تشخيصهما بالتسمم الغذائي، وفي اليوم التالي أصيب شخصان أخران، وبعد أيام سُجلت أكثر من 10 وفيات بالقري المجاورة، واستمر الوضع الوبائي حتي تم تسجيل أكثر من 20 ألف حالة، مات منهم أكثر من 10 آلاف حالة، وذلك من إجمالي عدد السكان البالغ آنذاك نحو 19 مليون نسمة.

المصادر:

  • بوب برير، "الأمراض المعدية في مصر القديمة"، ٢٠٠٤.
  • أندرياس ج. نيرليش، بيتينا شروت، سابين ديتريتش، توماس جيلينيك، وألبرت ر. زينك، الخلية المنجلية "الملاريا" في مصر القديمة، أخ نوفمبر ٢٠٠٩.
  • ماكولاي جي سي (1890)، "تاريخ هيرودوت ، ترجمة إنجليزية/ يونانية موازية": هيرودوت، 20 أكتوبر 2019.
  • نسمة سيف الإسلام سعد، "الأوبئة والأمراض في المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين (1902- 1947)، الهيئة العامة للكتاب.
  • ليلي السيد عبد العزيز، "الامراض والأوبئة وآثارها علي المجتمع المصري (1798- 1813)، الهيئة المصرية العامة لكتاب.
  • الصور خاصة بمركز أرشيف روكفلر، 1943.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية