أسس معالمها بطليموس الأول سنة 300 قبل الميلاد

"سرابيوم الإسكندرية".. بقايا ثلاثة حضارات حكمت عروس البحر الأبيض المتوسط

صرح أثري، يعكس الثالوث الحضاري الذي شهدته عروس البحر المتوسط خلال قرون ما قبل الميلاد، قديمًا اعتبره المصريون مكانًا لأداء مناسك الحج، وبمجرد وصول العقيدة المسيحية أرض مصر، تعاملوا معه على أنه دارًا لعبادة الأوثان، وقاموا بتحطيمه، فلم يتبق منه سوى القليل، ولكنه يُظهر عظمة تلك الحضارات التي توالت عليه، حتى أن الرحالة الأشهر "أبن بطوطة" وصفه في بداية القرن الـ14، بأغرب ما رأت عينيه في تلك المدينة.

 

يُعد "معبد السرابيوم" أشهر المعالم السياحية بمدينة الإسكندرية، ويقع تحديدا بين منطقة مدافن عامود السواري وهضبة كوم الشقافة، يبدأ تاريخه منذ أكثر من 2300 سنة، وتحديدا في عهد "بطليموس الأول" مؤسس الدولة البطلمية في مصر، الذي تولى الحكم بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 قبل الميلاد، والذي رغب في توحيد المصريين والإغريق لعبادة آلهة واحدة، فكون لجنة من علماء الدين المصري واليوناني، اتفقت على أن تكون تلك الديانة هو الثالوث المقدس الذي يضم الإله "سيرابيس" والألهة "إيزيس" وإبنها الإله "حربوقراط".

 

بدأ ذلك المعبد بتصميم بسيط ومتواضع على الطراز الإغريقي، وفي عهد "بطليموس الثاني" الذي تولى الحكم عام 284 قبل الميلاد، بدأ يزخر بالعناصر المعمارية المصرية، حيث أضاف إليه مكتبة عظيمة، أقل حجمًا من مكتبة الإسكندرية، لكنها كانت أكثر شهرة، فكانت تضم أكثر من 42 ألف لفافة من البردي، وعندما خلفه أبنه "بطليموس الثالث" عام 246 قبل الميلاد، أمر المعماري "بارمينيسكو" بإعادة تأسيس المبني من جديد، وفي عهد الإمبراطور الروماني "كلاوديو" حدثت تغييرات كثيرة داخل المعبد وفي مدينة الأسكندرية ككل، لتتحول في عهده إلى "عروس المتوسط".

تعرض المعبد مرتين عبر تاريخه، الأولى في عهد الإمبراطور الروماني "تراجان"، عندما قام اليهود بالعصيان المدني في الفترة ما بين عامي 98 وحتى 117 ميلادية، وقام الإمبراطور الروماني "هادريان" بإعاد بناؤه بين عامي 117 وحتى 138 ميلادية، وفي عام 391 ميلادية، أمر الإمبراطور "ثيودوسيوس الأول" بتدميره بالكامل، بعد أن أعتبره رمزًا للوثنية، لكن تبق منه القليل ليحكي لنا تاريخ تلك العصور.

 

عامود السواري

 

منذ أكثر من 1700 عام مضت، وتحديدا عام 292 ميلادية، أمر والي مصر "بوستوموس" بناء نصب تذكاري تخليدًا لذكرى الإمبراطور الروماني، ليكون أعلى نصب تذكاري في العالم، ويُعد قطعة أثرية تتزين به عروس البحر المتوسط، ويُعرف اليوم بإسم "عمود السواري"، ومازال يقف شامخا فوق تل باب سدرة، والذي يقع بين مدافن المسلمين المعروفة "بمدافن العامود"، وبين هضبة كوم الشقافة، صُنع من الجرانيت الأحمر الخالص، يصل طوله إلى 27 متر، أما قطره فيختلف من أسفل لأعلى، فيبلغ عند القاعدة 2.7 متر، وعند التاج 2.3 متر.

ولقد جاءت العبارة التي نقشت على الجانب الغربي من قاعدته باللغة اللاتينية تقول "إلى الإمبراطور العادل، الإله الحامي للإسكندرية "دقلديانوس" الذي لا يُقهر، أقام "بوستوموس" والى مصر هذا العامود"، لتظهر لنا أنه أقيم بعد أن أخمد الإمبراطور "دقلديانوس" الثورة التي افتعلها "لوكيوس دوميتيوس دوميتيانوس"، وهو القائد الروماني الذي أستولي على السلطة لفترة قصيرة في مصر.

 

عمود السواري كان واحدًا من بين 400 عامود انتشروا في تلك المنطقة، فعندما أراد الوالي "بوستوموس" تمجيد الإمبراطور "دقلديانوس" بنى له معبدا كاملا، على شكل مستطيل، يبلغ طوله 87 متر، وعرضه 77 متر، يحتوي على عدة مداخل، ويضم الكثير من التماثيل، ويحيط به من كل الجوانب العواميد الضخمة، وإن كان يعتقد المؤرخون أن عامود السواري كان أعلاها وأكثرها ضخامة لذلك لم يستطع أحد تحطيمه، فظل شامخا في مكانه حتى الآن.

 

حمل ذلك العامود عدة أسماء عبر تاريخه، ففي العصر الإسلامي أطلق عليه "عامود الصواري" لأنه يشبه صواري السفن المرتفعة، ولقد تحرف عبر الزمن ليصل إلى "عامود السواري"، أما في العصور الوسطى فقد أعتقد الرومانيون أن رماد قائدهم "بومبي" الذي قتله المصريون أثناء هروبه من يوليوس قيصر في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، حُفظ في إناء جنائزي فوق تاج العامود، لذلك أطلق عليه "عامود بومبي"، إلي جواره يجلس تمثالين يشبهان "أبي الهول"، صُنعا من الجرانيت الوردي، يعودان لعهد "بطليموس السادس"، والذي حكم مصر عام 180 قبل الميلاد، ومن الناحية الغربية للعامود يوجد ثلاثة تماثيل أخرى، لكنها بلا رأس.

العجل أبيس

 

عندما أعاد الإمبراطور الروماني هادريان بناء المعبد من جديد على أنقاض المعبد البطلمي، أضاف إليه تمثال ضخم للعجل أبيس، عثر عليه عالم الأثار الإيطالي "جيسيب بوتي"، وهو أول مدير للمتحف اليونانى الرومانى، أثناء عمليات التنقيب التي أجريت حول محيط عامود السواري عام 1895، وهو عبارة عن تمثال لعجل يبلغ ارتفاعه 1.9 متر، طُلي باللون الأسود، فيما عدا مثلث أبيض يبدو واضحا على جبهته، ويوجد بين قرنيه قرص الشمس يتوسطه رأس الكوبرا، وعلى ظهره رُسم نسرًا مجنحًا.

 

ويعتبر ذلك العجل من أهم الرموز في الثقافة المصرية القديمة، فقد اعتبره القدماء المصريون رمزا للخصوبة والنماء، وزينوه بقرص الشمس اعتقادًا منهم بأنه ابن الإله "بتاح"، ومع الوقت زادت أهميته وأنتقل إلى الحضارات اليونانية والرومانية، ولكي تصل إلى تمثال ذلك العجل عليك أن تجتاز ممرًا محفورًا وسط الصخور، يمتد 70 مترًا، وعرضه حوالي 1.5 متر، لتجده مستقرًا أسفل عامود السواري، وإن كان حاليًا استقر بالمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

كما كشفت تلك الحفائر أيضا عن الودائع الأساسية الخاصة بالمعبد، وهي عبارة عن مجموعتين، كل مجموعة تحتوي على 10 صفائح، نُقش عليها نصوص باللغة الهيروغليفية واليونانية، وكل مجموعة تحتوى على صفيحة من الذهب، وثانية من الفضة، وثالثة من البرونز، ورابعة من طمي النيل المجفف، أما الباقي فمن الزجاج المعتم، عُثر أيضا على ودائع لمعبد أنشأ عهد "بطليموس الرابع"، كان مخصصا لعبادة "حربوقراط" أبن إيزيس الذي أنجبته من أوزوريس في مدينة بوتو بعد أن بُعث من الموت.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية