400 عام من الفن والآثار في قلب القاهرة

جاير أندرسون: الطبيب العاشق الذي ترك لمصر أهم متاحفها

"مصر أحب الأرض إلى قلبي لذلك لم أفارقها لأني قضيت بها أسعد أيامي منذ مولدي".. تلك العبارة جاءت بتوقيع "جاير أندرسون"، ذلك الطبيب الانجليزي الذي خلد حبه لوطنه الثاني مصر كما وصفها في مذكراته المحفوظة بمتحف فيكتوريا والبرت بلندن.

 

"روبرت غرينفيل جاير أندسون".. عالم مصريات إنجليزي وشاعر وجراحًا وجنديًا وطبيبًا نفسانيًا، ولد في بريطاينا عام 1881 ميلادية، جاء إلى مصر عام 1904 وهو لم يتعد الثالثة والعشرين من عمره، ليُصبح طبيبا للجيش الانجليزي في مصر، ثم انتقل كطبيب للجيش المصري عام 1907، وفي عام 1914 أصبح نائبا مساعدا للتجنيد في الجيش المصري برتبة رائد، قبل أن يتقاعد من الجيش عام 1919 ليصبح كبيرًا للمفتشين في وزارة الداخلية المصرية، وأخيرًا سكرتيرًا مُقيمًا للمنطقة الشرقية البريطانية في القاهرة.

تقاعد أندرسون تماما عن العمل العسكري والسياسي في عام 1924، وهو يبلغ من العمر 43 عاما،  إلا إنه لم يترك مصر ليعود إلى بلده بريطانيا، فقد عشق أرض مصر وأراد أن يستقر بها، فقام بدراسة علم المصريات والدراسات الشرقية، ولأنه كان يعشق الفن الإسلامي اقتنى مجموعة كبيرة من الآثار التي تنتمي إلى عصور مختلفة وهي تعرض الآن في منزله الذي تحول إلى متحف فني.

 

ويُعد متحف جاير أندرسون، والذي يوجد في قلب القاهرة القديمة، وتحديدًا في شارع أحمد بن طولون بحي السيدة زينب، أفضل النماذج التي تظهر روعة العمارة في القرنين الـ16 والـ17، فهو يتكون من منزلين أحدهما على الطراز المملوكي والآخر على الطراز العثماني، أقدمهم الذي يقع في الجانب الغربي، بُني عام 1540، أنشأه المعلم عبد القادر الحداد، ويسمى ببيت أمنة بنت سالم، وهي آخر من سكنت البيت.

أما المنزل الأحدث وهو الأكبر حجما، فيقع على الجانب الشرقي منه، بُني عام 1631، وقام ببنائه أحد أعيان القاهرة في ذلك الوقت، وهو محمد ابن الحاج سالم بن جلمان الجزار، ثم تعاقبت علية الكثير من الأسر الثرية، حتى استقرت فيه سيدة مسلمة جاءت من جزيرة كريت، ولذلك عُرف ببيت الكريتلية، ويوجد على بابه لافتة مكتوب عليها "روائع الكريتلية"، وربط المنزلين بجسر في الطابق الثالث ليصبحا منزلا واحدا، يُعرفا بإسم بيت الكريتلية.

 

وفي عام 1928، تعرض المنزلين لخطر الهدم، ففي ذلك الوقت أرادت الحكومة المصرية توسيع محيط مسجد أحمد ابن طولون، فقامت بإخلاء كافة المنازل الآيلة للسقوط، والتي كانت تحجب المسجد عن الرؤية، إلا أن لجنة الحفاظ على الآثار العربية اعترضت على هدمهما لأنهما كانا بحالة جيدة، ويعكسا روعة العمارة الإسلامية، وبمجرد ترميمه حصل الرائد جاير أندرسون بتصريح من الملك فؤاد الأول للسكن فيه، بإيجار قيمته 6 قروش شهريا، فأقام فيه لسبعة سنوات، خلال الفترة من عام 1935 حتى عام 1942، عندما أضطر للعودة إلى إنجلترا بسبب مرضه الشديد، ليتوفى عام 1945، ليُدفن في لافينهام، سوفولك.

قبل أن يرحل أندرسون عن مصر قدم محتويات منزله التي تضم مجموعة عظيمة من الأعمال الفنية والمفروشات والسجاد والآثار الإسلامية والفرعونية إلى الحكومة المصرية وأوصى أن يتحول منزله إلى متحف بإسمه، وهذا ما حققته مصلحة الآثار العربية.

 

يتكون المتحف من 29 قاعة مختلفة تطل جميعها على فناء المنزل، والذي يحتوي على بير مسحور ارتبط تاريخيا بأسطورة عن العشق، فيقال أن الرجل يستطيع أن يري وجه حبيبته إنعكاسًا لوجه في الليالي القمرية، أحد القاعات قاعة السلاملك، وهي مجلس الرجال الذي كان يُعرف ببيت الضيافة، وقاعة الحراملك الخاصة بالسيدات، فلا يدخله من الرجال سوى أهل الدار، وقاعة الاحتفالات المخصصة لعقد مجالس الطرب، كما توجد قاعات تنتمي لحضارات مختلفة، كالقاعة الصينية والهندية والفارسية، وقاعة الملكة "آن ستيوارت" أول ملكات بريطانيا العظمى، وتحمل القاعة الطابع الأوروبي.

أما القاعة الفرعونية فتضم آثاراً من عصور ما قبل الأسرات وحتى العصر اليوناني، في حين تضم القاعة الدمشقية أخشابا تزينها زخارف نباتية وهندسية، كما نقش على السقف بردة المديح المحمدية وهي القصيدة الأصلية في مدح الرسول والمسماة "الكواكب الدرية في مدح خير البرية"، للشاعر المصري محمد ابن سعيد ابن حماد الصنهاجي البوصيري، كما توجد مجموعة من الشمعدانات مختلفة التصميم، أما القاعة العثمانية، فجدرانها مزينة باللونين الأخضر والذهبي، وتحتوي على أثاث يعكس فن "الروكوكو"، وهو طراز زخرفي ظهر في القرن الثامن عشر، كما يوجد بالقاعة كرسي العرش الذي نُصب عليه الخديوي إسماعيل، وصورتان، وطائر غناء الكتروني في قفص كان أحد ألعاب الحريم في اسطنبول.

 

القاعة الرئيسية في المتحف، هي قاعة الاستقبال، وهي عبارة عن طاولات من الرخام مزينة بالفواكه والزهور والمشروبات، وتوجد به جزء من كسوة الكعبة، كما توجد قاعة استقبال اخرى ليس لها سقف، تضم اوعية نحاسية تعود إلى اربعة قرون من الزمان، ما بين القرنين الـ14، والـ17، بالإضافة إلي غرفة كبيرة مدعومة بأربعة اعمدة كانت مخصصة للسيدات، على جوانبها الأربعة نوافذ من خلالها تدخل اشعة الشمس بحرية.

بين حجرات الرجال والسيدات توجد خزنة خاصة لصنع القهوة، يعرض فيها لوحات فارسية مصغرة، رغم أن هذه الغرفة تبدوا بسيطة مجرد خزانات ذات أرفف، لكنها في الحقيقة هي رمز أمان الحريم في البيت كله، فخلف أحد الخزانات توجد غرفة سرية عبارة عن مخبأ خاص تلجأ إليه الحريم وقت الإعتداء على المنزل من أي لص أو عدو، هذا المخبأ يوجد فوق البئر السحري.

 

أما قاعة السبيل، فيوجد بها بئر كان يضخ قديما الماء لعابري السبيل، ورغم أنه مازال يحتوي على المياه إلا إنه توقف استخدامه، توجد داخل هذه القاعة كرسي العرش، ومجموعة من الأطباق النحاسية التي صنعها اندرسون، وهي تتحدث عن جبل "شكر" الذي شيد عليه جامع ابن طولون، وتحكي الأطباق ان الجبل سُمي بهذا الإسم، لأن سفينة نبي الله نوح رست عليه بعد الطوفان، ولأن تضحية نبي الله اسماعيل كانت عليه، كما كان سحرة فرعون يجتمعون أعلي قمته، وأنهم جميعا سجدوا لله شكرا عندما نجاهم الله، كما توجد قاعة صغيرة مخصصة للقراءة، تحتوي علي عدد من الرفوف ذات التصاميم الاسلامية، وجدراها مزينة برسومات أزهار صينية على ورق الأرز، كما زودت بطاولات ومقاعد طويلة تستخدم كمكتبة للباحثين عن كتب الرحلات، رغم انها اصبحت مكتبا لأمين المتحف فيما بعد.

في الطابق الثالث، حيث الممر الذي يجمع بين البيتين، والذي لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال سلم خشبي لم يكن مألوفًا في العمارة الإسلامية، يوجد علي يسار السلم غرفة منفرد بسيطة ذات طابع هندي، تطل علي مسجد احمد ابن طولون، بجوارها القاعة الفارسية ذات السرير الذي كان ينام عليه اندرسون، بجواره سرير صغير كان ينام عليه أحد العبيد، وزين صور اندرسون جدران القاعة، تحت منه صورة العبد مباشرة، أسفل تلك الصورة توجد بلاطة يمكن رفعها بسهولة، يوجد أسفلها خزانة المنزل الذي يوضع بها المال، ولعل من هنا جاءت مقولة "الفلوس تحت البلاطة"، وعلى يمين السلم يوجد السطح المليئ بالمشربيات، وهي تصاميم تعكس الطابع المسيحي، وهو طابع نادر الانتشار، فلا يوجد مثيل له إلا في المتحف القبطي، وبعض المنازل القديمة في القاهرة القديمة.

 

"كل من يعشق محمد ينبغي أن لا ينام".. رغم أن المتحف يحتوي على العديد من الآيات القرآنية، والتواشيح الإسلامية، ورمز الصليب الذي ينعكس بصورة واضحة على مشربيات سطح بيت الكريتلية، إلا أن هذه العبارة تعتبر من أجمل ما كُتب على أحد لوحات الجدران، فهي دليل واضح على أن الحفاظ على الآثار لا يخص معتقدات الإنسان.

القيمة المعمارية والتراثية لمتحف جاير أندرسون جعلته قبله لأكثر الفنون تأثيرًا قي القرن العشرين، فكان نموذجًا فريدًا لأهم الأعمال السينمائية، سواء كانت المصرية أو العالمية، ففي عام 1962 اختاره المخرج المصري حلمي رفلة مقرًا لتصوير فيلم "ألمظ وعبده الحمولي"، وفي عام 1978، وقف في ساحته أهم فناني السينما المصرية، علي رأسهم سعاد حسني، أحمد مظهر، وجميل راتب، ومجموعة كبيرة من الفنانين، لتشدوا الأولي بأغنية "بانو على أصلكم بانو" في فيلم "شفيقة ومتولي"، وفي عام 1980، اختاره المخرج حسام الدين مصطفى ليكون موقعا لتصوير رائعة الأديب نجيب محفوظ "الحرافيش"، وفي عام 1985، قام المخرج أشرف فهمي بتصوير فيلم "سعد اليتيم"، وفي عام 2000، قام المخرج شريف عرفة بتصوير مشهد دخول التتار مصر داخل المتحف في فيلم "الناظر صلاح الدين"، أما الدراما المصرية، فقد استعانت بالمتحف في تصوير مسلسل الإمام الغزالي في عام 2012.

 

كان للسينما العالمية نصيبًا من الإستفادة من الطراز الفريد لمتحف جاير أدرسون، ففي عام 1977 اختاره المخرج البريطاني "لويس جلبريت" لتصوير فيلم "الجاسوس الذي أحبني"، للبريطاني روجر مور، ليُصبح أحد أجزاء سلسلة الأفلام العالمية المعروفة باسم "جيمس بوند".

المصادر:

  • دليل موجز لأشهر الآثار العربية بالقاهرة، محمود أحمد، إدارة حفظ الاثار العربية، المطبعة الأميرية، الطبعة الأولي 1938.
  • دراسة تحليلية للعمارة الداخلية والأثاث لبيت الكريدلية وأثرها على التصميم الداخلي والأثاث في المدن الجديدة، بقلم مصطفى محمد نبيل عبد السلام، كلية الفنون التطبيقية - جامعة حلوان، 2002.
  • جاير أندرسون: الحياة والآخرة للباشا الأيرلندي، بقلم لويز فوكسكروفت، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، الطبعة الأولي 2016.
  • دليل متحف جاير أندرسون، القاهرة، مطبعة المجلس الأعلى للأثار 2003.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية