صاحبة أجمل تمثال في تاريخ الإنسانية

الملكة نفرتيتي: سيدة الأرضين التي أتت مصر

منذ ما يقرب من أكثر من القرن، وتحديدًا في عام 1912، عثر أحد أهم الفرق البحثية الألمانية بقيادة عالم المصريات الألماني "لودفيج بورشاردت"، علي رأس جميلة الجميلات المصرية، الملكة نفرتيتي، وذلك في مدينة "أخيتاتون"، أو "تل العمارنة" بمحافظة المنيا اليوم، والتي بناها الملك إخناتون  عام 1365 ق.م، لتكون العاصمة ومقر عقيدة آتون التوحيدية، قبل أن يتم تدميرها ونهب قصورها، قبل أن يقوم توت عنخ آمون خلفه بنقل العاصمة ثانية لطيبة لإحياء عقيدة آمون.

 

طيلة أكثر من قرن مضي، أثار تمثال رأس الملكة نفرتيتي الكثير من الدهشه والتساؤل، فتلك التحفة الفنية وجدت في منطقة صحراوية نائية من مصر الوسطي، قبل أن يتم العثور علي أطلال مدينة عملاقة كانت يومًا عاصمة لمصر، تلك الأطلال ضمت مدينة هائلة زُينت جدران منازلها وأسوارها وقصورها بنقوش وزخارف بالغة الجمال والدقة، ما يؤكد أن تلك الفترة من تاريخ مصر كانت تشهد ازدهارًا، ولما لا وأن الاسرة الثامنة عشر هي أول أسر المملكة المصرية الحديثة، وهو العصر الذي وصلت فيه مصر القديمة إلى ذروة قوتها.

"الجميلة أتت".. هكذا يعني اسمها، تلك الملكة التي تُعد واحدة من أكثر النساء غموضًا وقوة في تارخ مصر القديمة، بل ويمكن وصفه بانها اشهر ملكات مصر القديمة غموضًا، تزوجت الملك اخناتون، رائد الوحدانية في مصر القديمة، وذلك خلال الفترة من 1353 إلى 1336 قبل الميلاد، ويُعتقد أنها حكمت المملكة الحديثة مباشرة بعد وفاة زوجها، وقد مثلت فترة حكمها فترة اضطراب ثقافي هائل، حيث أعاد إخناتون توجيه البنية الدينية والسياسية في مصر حول عبادة إله الشمس آتون.

 

أكثر ما تشتهر به الملكة نفرتيتي هو ذلك التمثال النصفي المذي صُنع من الحجر الرملي الملون، والذي أعيد اكتشافه في عام 1913 وأصبح رمزًا عالميًا للجمال الأنثوي والقوة، كانت طيلة فترة زواجها من اخناتون، ورغم تلك الأحداث العنيفة، مليحه المحيا، بهيجه التاج، صاحبة الريشتين، تلك التي إذا ما أصغي إليها الإنسان طُرب، سيدة الرشاقة، ذات الحب العظيم، تلك التي يسر رب الأرضين سماعها، حتي أن اخناتون كان يفضل أن يطلق عليها اسم سيده جميع النساء.

يعتقد بعض المؤرخين أن الملكة نفرتيتي هي ابنة "آي"، أحد كبار المستشارين، وقائد الجيش، وزوجته الملكة "تي" غير الحاكمة، وإن كانت تلك النظرية تواجه مشكلة كبيرة لدي المؤرخين، خاصة وأن الوثائق والنقوش لم تقول صراحة أن "أي" و"تي" هما والد ووالدة الملكة نفرتيتي، غير أن "تي" هي في واقع الأمر والدة نفرتيتي في الرضاعة ومربيتها الخاصة، لذا يري بعض المؤرخين أن لوالدها "آي" زوجة أخري تُدعي "لوي"، إلا أن كل تلك الآراء لم تخرج عن كونها مجرد افتراضات لم يدعمها اي سند حقيقي

 

"أميرة وراثية- تسبيح عظيم- سيدة النعمة- حلوة الحب- سيدة الأرضين- زوجة الملك الرئيسية- زوجة الملك العظيم- سيدة كل النساء- عشيقة مصر العليا والسفلى".. كلها ألقاب حُظيت بها الملكة نفرتيتي، فقد لعبت تلك المرأة الكثير من الأدوار المهمة في الحياة الدينية والسياسية في مصر، فقد جلب تحول أخناتون الديني معه العديد من التغييرات جذرية في التقاليد الدينية والاجتماعية والفنية، وكانت نفرتيتي تتميز بجانب جمالها وجاذبيتها بشخصيه قويه، فكانت ذات تاثير واضح على زوجها، وقد نُقشت صورها بما يشبه صور اخناتون، لذا نجد عدم تناسق في شكل الرقبه، ذات بطن كبير، وعلى جدران المقابر والمعابد التي بنيت في عهد إخناتون، تم تصويرها جنبًا إلى جنب مع زوجها، وبنفس حجمه، وهو ما لم تشهده أي ملكة أخري من قبل، وهو ما فسره المؤرخين بأنه كان واقعا تحت تأثير الحب والوله لها، حتي أنها كانت تصور وهي تضرب الأعداء مثل الملك.

رغم ما اشتهرت به الملكة نفرتيتي ودورها في الحياة المصرية، إلا أن البعض يؤكد علي أنها ليست ذات أصول مصرية، فهناك من يعتقد ذات أصول سورية، وأنها جاءت في عهد الملك امنحتب الثالث، ثم اخذت اسم مصري كما جرت العادة، ورأي بعض المختصين انها ابنه الملك امنحتب الثالث، أي أنها أخت اخناتون، وأنها قد تكون من نفس الأم الملكة "تي"، أو قد تكون من زوجة أخرى، وأن كان ذلك يواجه اعتراضًا جوهريًا، فهناك البعض يؤكد علي أن نفرتيتي هي ملكة من أصل مصري، وإن كانت لا تنتسسب للأسرة المالكة، خاصة وأن شقيقتها "موت نجمت" ملكة مصرية قديمة غير حاكمة، أو زوجة ملك عاشت في آخر الأسرة الثامنة عشرة، وهي زوجة الملك حورمحب آخر ملوك هذه الأسرة.

 

طبقا للنقوش التي تم الكشف عنها في "تل العمارنة" و"معبد أتون" في الكرنك، يظهر لنا أن زواجها من الملك اخناتون من المحتمل إنه قد تم في نهايه العام الأول لاعتلاء العرش، أو بدايه العام الثاني، وفي العام السادس للحكم هاجرت مع زوجها إلى تل العمارن، يصطحبهم  ثلاثة من بناتهم، وقد عاشت مع زوجها حياه زوجيه سعيده وهانئه تتميز بالقرب  التفاهم العقلي، بل والتوافق العقائدي، كما شاركت زوجها في كافه المناسبات الرسميه والطقوس الدينية، وهو ما جعل الكثير من المؤرخين يعتقدون إنها كانت شريكة في الحكم، فنراها الى جانب زوجها في دور العباده تردد معه صلاه الشمس، ونقش أخر في شرفات القصر يطلان على الجموع الحاشدة التي تجمعت في الساحه ويقدمان الهدايا إلى رعاياهم من العسكريين والمدنيين، كما رافقته في المواكب الرسمية وهم يستقبلان السفراء والوفود الاجنبية.

في العام الثاني عشر من حكم إخناتون، والذي دام ما يقرب من 17 عامًا، يختفي اسم الملكة نفرتيتي من السجلات التاريخية، ويعتقد بعض المؤرخين أن نفرتيتي ربما تكون قد ماتت في تلك السنة، ولكنه من المحتمل أيضًا أنها أصبحت الوصي المشارك للحكم مع زوجها، وأنها لذلك حملن اسم "نيفيرنفيرواتين"، كما يعتقد البعض أنها كانت هي نفسها "سمنخ كارع"، والذي تولي الحكم بعد اخناتون، وأن نفرتيتي اضطرت للتخفي خلف اسم رجل، وأن كان البعض يعتقد انه هو ذاته زوج ابنته الكبري ميريت اتون، ورغم ذلك تم العثور علي مومياء لشاب لم يكمل الأربعين من عمره، ويُعتقد إنه سمنخ كارع.

 

لم يكن لنفرتيتي مكانه خاصه في التحكم أو السياسه فقط، ولكنها كانت تتمتع بمركز ديني خاص، فنراها في مقاصير قد خصصت ربما لتقدم الشعائر الدينيه باسمها، كما صورت نفرتيتي على جوانب التابوت الخاص بابنتها "ماكيت اتون"، وهو دليل على مكانتها الخاصه إذ أن صور التوابيت كانت مخصصة للألهة.

"فجأة، أصبح بين أيدينا أفضل الأعمال الفنية المصرية الباقية.. لا يمكن وصف ذلك بالكلمات، لابد أن تراه".. هكذا وصف عالم المصريات الألماني "لودفيج بورشاردت" تمثال نفرتيتي في مذكراته، وبعد أشهر قليلة وتحديدًا في العشرين من يناير من العام ١٩١٣، عقد بورشارت اجتماعًا مع مدير تفتيش آثار مصر الوسطى جوستاف لوفيفر لمناقشة تقسيم الاكتشافات الأثرية التى عثر عليها فى عام 1912 بين ألمانيا ومصر، حيث كان تقسيم الاكتشافات وفقًا لقانون الآثار آنذاك "حصص متساوية" بين مصر وبعثة الحفر من خلال لجنة مشتركة يرأسها ممثل مصلحة الآثار عن الحكومة المصرية، وكان "بورشاردت" عاقدًا العزم على أن يكون التمثال للألمان، لذا قام بخداع الحكومة المصرية وقام باخفاء قيمة التمثال النصفي الحقيقية، حيث قال أن التمثال مصنوع من الجبس، رغم أنه مصنوع من الحجر الجيرى الجيد، وكان القانون المصرى يحظر خروج أى قطعة مصنوعة من الحجر الجيرى.

 

وبعد أقل من عام عُرض تمثال نفرتيتي في برلين، بعدما قُدّم إلى "هنري جيمس سيمون" تاجر الآثار وممول حفائر تل العمارنة، وقام بدوره بإهدائه إلي المتحف، ولكنه ظل طي الكتمان بناء على طلب بورشاردت نفسه، حتي عام ١٩١٨ خرج التمثال إلي النور، وقام المتحف بعرضه علي الجمهور في الخفاء، وفي عام 1920 قام "سيمون" بالتنازل عن التمثال نهائيًا لمتحف برلين، إلي ان تمت الموافقة عام 1923 علي عرض التمثال لأول مرة للجمهور بعد موافقة كتابية من بورشاردت، وظل التمثال داخل متحف برلين حتي قيام الحرب العالمية الثانية في عام 1939، نُقل التمثال إلى قبو البنك الحكومي الألماني، ليظل به طيلة عامين، وفي عام ١٩٤١ نُقل إلي أحد المواقع العسكرية الحصينة وفي عام 1945 نُقل إلى منجم ملح ألماني في ولاية تورنغن، وفي عام 2009 بلغت قيمة التأمين على تمثال الملكة نفرتيتي حوالي 390 مليون دولار، أي ما يقدر بـ 300 مليون يورو.

المراجع:

  1. العمارنة: عصر ثورة مصر القديمة، باربرا واترسون، أركاديا للنشر (SC)، سبتمبر ١٩٩٩ .
  2.  العائلات الملكية الكاملة لمصر القديمة، ايدان دودسون، ديان هيلتون، التايمز- هدسون، 2004.
  3.  شروق العمارنة: مصر من العصر الذهبي إلى عصر البدعة، أيدان دودسون، الناشر: آي بي توريس، مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، سنة ٢٠١٤ .
  4. نفرتيتي التي حكمت في عصر التوحيد، جوليا سامسون، الدار المصرية للبنانية، القاهرة، مصر، 1998.
  5.  الحضارة المصرية منذ عصور ما قبل التاريخ وحتي نهاية الدولة الحديثة، سيريل الدريد، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة مصر، 1998.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية