دراسة استمرت ستون عامًا

جينات تحول الأسود والنمور والضباع إلى حيوانات أليفة

هل تصبح الضواري يومًا ما حيوانات آليفة؟، هل يستبدل أطفالنا القطط والكلاب ليلعبوا مع الأسود والنمور والفهود والضباع؟، هل يأتي اليوم الذي نتخذ فيها ملوك الغابة والوحوش كائنات صديقة؟، البعض قد يعتقد أن تلك القضية مستحيلة غرائزيًا، وأن الضواري خُلقت للافتراس ورفض أي محاولة للاستئناس، غير الدراسات والأبحاث العلمية طيلة أكثر من ستة عقود، أثبتت عكس ذلك.

 

بداية علينا أن نؤكد قدرة بعض البشر علي استئناس الحيوان المفترسة، ولكن بطرق مختلفه بعض الشيء، فمن خلال تغيير سلوك تلك الحيوانات تمكن البعض من اتخاذهم صديقًا أليفًا، وفي جنوب أفريقيا تمكن مدرب السلوكي للحيوان "كيفين ريتشاردسون"، والذي يعمل مروضًا للحيوانات المفترسة في محمية "دينوكينج"، شمال العاصمة بريتوريا، وتمكن من استئناس أغلب الضواري التي تعامل معها.

"الراقص مع السود".. هكذا اشتهر كيفين ريتشاردستون، فقد جعل يومًا أسود المحمية يلهون معه، بل وصل به الأمر أنه يداعبهم بود، وكأنهم قطط صغيرة تعشق التقرب من صاحبها، فيقومون بإحتضانه والتسكع معه فى الغابة، ودون أن يتعرضوا له بشكل عنيف أو مفترس، فطبقًا لصفحته الشخصية، قام بتغيير سلوكهم الافتراسي منذ أن كانوا أشبال صغار، يقوم بحمياتهم من الاصطياد والقتل على يد صائدي الأسود تخوفًا من انقراضها، فأضحي اليوم فرد من أسرة تضم 31 أسد وطفلين صغيرين.

 

حالة "كيفين ريتشاردسون"، ومن قبله البريطاني "جورج أدامسون"، والذي عُرف في أفريقيا بإسم "بابا يا سيمبا"، أو "أبو الأسود"، جعلت العديد من الباحثين والعلماء المتخصصين يفكرون في طريقة علمية لتحويل تلك الكائنات المفترسة إلي حيوانات ودودة يمكن تربيتها في المنازل، فوضعوا فرضية جينية تقول أنه إذا كانت عملية تغيير السلوك العدواني قد نجحت، فأن تلك الوحوش يمكن تعديل جيناتهم لإسستئناسهم.

منذ ستون عام مضت، وتحديدا عام 1959 بدأ الباحثون في تنفيذ حلمهم لتغيير طبيعة وحوش الغابة جينيًا، وذلك عندما قرر العالم الروسي ديمتري بيلييف مدير معهد علم الخلايا بالأكاديمية الروسية للعلوم في مدينة نوفوسيبيرسك، إطلاق مشروع طموح لدراسة كيف يمكن أن تنحدر الكلاب من الذئاب، والجينات المسئولة عن اكسابها صفات قادرة علي تحويلها إلى حيوانات مستأنسة، وكان يعتقد أن سلوك الكلاب ومواقفهم قابلة للتوريث، لذلك قرر البدء في تربية الكثير من الثعالب الفضية لمعرفة ما إذا كان قد يكرر عملية انتقال الذئب إلى جرو آليف.

 

بدأ ديمتري بيلييف في تزويج الأفراد الودودين والأكثر انقيادًا، علي الأخص الأفراد الذين لم يهاجموا البشر، وتم تزويجهم ابناءهم وأحفادهم مع بعضها البعض، حتي ظهرت عليهم علامات المودة، وبدأوا في ممارسة حياتهم وكأنهك كلاب مستأنسة، وبدأت بعض الأسر تحتفظ بها كحيوانات أليفة، في نفس الوقت كان"بيلييف" يشكل خط أخر من الثعالب الفضية ذوي السلوك العدواني والمتقلب، حيث يقومون بالهجوم والزمجرة بمجرد اقتراب أي إنسان منهم، للمقارنه فيما بينهم، فلاحظ انه بعد 40 جيل يكتسب الحيوان صفاته وراثيًا.

في يوليو الماضي نشرت مجلة Nature Ecology & Evolution، تقرير مفصل عن نجاح فريق بحثي بجامعة كوبنهاجن الدنماركية في أول تجارب تحديد الجينات المستأنسة للحيوانات المتوحشة، وهو ما وصفته غوجي زانج، أحد المشاركات، بالفرصة الممتازة لإعادة عرض تاريخ الاستئناس للكلاب وتحديد الجينات المستأنسة، لأن عملية التدجين نفسها قد تمت بدقة من خلال الاختيار على أساس السلوكيات، وبناء عليه قررت هي وزملاؤها في عام 2010، أن يسلسلوا جينوم الثعلب الأحمر في محاولة لتحديد أنواع الجينات الأكثر أهمية للتوطين.

 

أنتجت غوجي زانج وفريقها جينومًا مرجعيًا للثعلب الأحمر، وقاموا بتحديد مسلسل لجينوم 10 من الثعالب المستأنسة، و10 ثعالب عدوانية، و10 ثعالب عادية، وحددوا 103 منطقة وراثية تباينت على نطاق واسع بين المجموعات الثلاث، معظم هذه الجينات مرتبطة إما بسلوك أو وظائف مناعية، بل ويتداخل حوالي 45 من هذه المناطق مع تلك المعروفة لتعديل الاستئناس في الكلاب، في حين أن 30 منطقة أخرى كانت مرتبطة بالفعل بالترويض أو العدوانية في الثعالب الحمراء.

طبقا لمجلة نيتشر، كان هناك جين معين على وجه الخصوص قد أثار اهتمام الفريق أكثر من أي شيء آخر، وهو جين SorCS1 الذي يقع ضمن بقعة معروفة جيداً بالسمات السلوكية الحاكمة، وتقول زانج: "هذا الجين هو من بين أفضل الجينات المعروفة باسم علامات الانتقاء الاصطناعي، لأنه يختلف بشكل كبير بين السكان"، الأكثر من ذلك أن هذا الجين أظهر ارتباطًا وثيقًا بالعديد من الاضطرابات السلوكية البشرية مثل التوحد والزهايمر، وهو ما اثبتته الدراسات العلمية على الفئران، فقد أظهرت النتائج أن SorCS1 يلعب دورًا في الإشارات العصبية، وهو ما يؤثر على السلوك والمزاج، لذلك من الممكن جدًا أن يلعب هذا الجين دورًا أساسيًا في اختيار الترويض أو العدوان في الثعلب.

 

وقد اختبر الفريق هذه النظرية من خلال قياس كيفية استجابة ما يقرب من 1600 من الثعالب لمراقبين بشريين، ثم قورن هذا السلوك مع نسخة SorCS1 التي كان يحملها كل ثعلب، في النهاية تبين أن ترويض الثعلب أو السلوك العدواني كان مرتبطًا بشكل أو بآخر بأي صيغة SorCS1 كان يمتلكها، فكان لدى الثعالب المستأنسة نسخة من الجين الذي كان غائباً في الثعالب العدوانية والتقليدية، في حين كانت نسخة مختلفة من الجين السائد في الثعالب العدوانية نادرة جداً في المجموعات الأخرى.

تعد الدراسة الجديدة معلماً رائعاً إلى حد بعيد في مشروع مستمر منذ ما يقرب من 60 عاماً، ولكن النتائج نفسها لا ينبغي أن تعتبر دليلاً على ما تمليه الجينات على إمكانية تحويل الكلاب إلى حيوانات آليفة، حيث تقول غوجي زانج: "تتفاعل العديد من الجينات معًا في طرق معقدة لتنظيم سمات السلوك"، فعلى سبيل المثال، يرتبط أحد المناطق الوراثية التي تتنوع بين السكان والمعروفة بمتلازمة ويليامز- بيورين، وهو اضطراب يؤدي بشكل نمطي في البشر إلى شخصيات ودودة للغاية، ولكنها ظهرت في الثعالب العدوانية، ما يعني ان تلك المتلازمة تصيب الثعالب بالقلق الشديد، ما يؤدي إلى ردود فعل عدوانية.

 

وتضيف تشانغ: "إنه عمل صعب لتحديد إشارة الاختيار، لأن الإشارة على جين فردي قد تكون ضعيفة للغاية في الواقع، ووجد الفريق نجاحا في تحديد ودراسة SorCS1 في العمق، ولكن نحن لا نتوقع أن نتمكن من تحديد جميع الجينات الفردية من خلال هذه المقارنة"، ومع ذلك، تشير النتائج إلى أن سلوك الاستئناس في الأنواع المختلفة قد يعمل من خلال نفس الآليات الوراثية، ولكن أيضًا يمكن للسلوك أن يتحول بشكل جذري خلال بضعة أجيال من الضغط الخارجي.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية