"يا عذراء، بنت مصر. باطلًا تكثرين العقاقير. لا رفادة لك"

"العقاقير والأدوية".. أصل مصري تكشفه برديات وادي النيل (1)

 

"يا عذراء، بنت مصر. باطلًا تكثرين العقاقير. لا رفادة لك".. لسنوات طويلة ظلت تلك الآية التي وردت في سفر أرميا، بالإصحاح السادس والأربعين، بالعهد القديم، مثيرة للاهتمام، فما الذي يقصده بمصطلح "عقاقير"، وهل يعني في سياق الآية أن مصر كانت منبتا لعلم العقاقير، وهل تعطي تلك الآية دليلا علي أن علم العقاقير، أو الصيدلة، هو علم مصري أصيل.

 

"إن المدارس الطبية في مصر القديمة كانت في منتهى الشهرة والسمعة الطبية، كما أن رجال الطب الذين تخصصوا في مختلف فروعه كان لهم صيتٌ ذائعٌ واسعٌ، وأن الملوك والأمراء وعظماء الرجال في الممالك المجاورة كانوا يستدعونهم لعلاجهم".

 

منذ أكثر من أربعة وعشرين قرناً مضت، جاء إلي مصر أحد مؤرخي الإغريق عراقة، وثق رحلته في مؤلف يُعد أهم ما كُتب عن مصر في نهايات القرن الخامس قبل الميلاد، حتي وإن كنا ننتقد ما كتبه أو نرفض بعض ما جاء في مخطوطاته، سيظل "هيرودوت" وكتاباته عن مصر طريقاً نلتمس منه شكلاً من أشكال المعرفة، وحينما تحدث عن مصر كتب تلك المقولة، وأوضح أن رجال الطب في مصر تخصصوا في مختلف الفروع، وأن لهم صيتاً ذائعاً في تاريخ الشرق القديم.

 

هل سمعتم من قبل عن ملحمة "الأوديسة"، تلك الملحمة الشعرية الشهيرة التي كتبها الشاعر الإغريقي العظيم "هوميروس" في القرن الثامن قبل الميلاد، ذكر علي لسان أحد أبطالها مقولة تتحدث عن عظمة وأصل الطب وصناعة العقاقير في مصر، وقال نصاً: "إن رجال المهن الطبية في مصر كانوا على أعلى درجة من الذكاء لم يصل إلى مثيلها شعبٌ من البشر"، بل إن أغلب مؤرخي هذا العصر يقولون إن مصر استعملت الكثير من العقاقير، وتعاطت الطب والصيدلة في دقة وعناية وتعقُّل، وكان التخصص في المهن الطبية قائما منذ أقدم العصور، ووصل بهم الحد أن جعل عالم المصريات البريطاني "واليس بودج" يصف مصر بأنها مهد الصيدلة، وأنه علي أرضها نشأ العشْاب الأول.

الكيمياء والعشْاب الأول

حين نسعى لتقصي حقيقة الصيدلة وعلم العقاقير في مصر، سيكتشف أن الفراعنة كانوا أول من شخصوا الداء، وعرفوا طرق الدواء، وصنعوا العقاقير والوصفات الطبية، وبرعوا في علوم الصيدلة، فقد اشتهرت مصر القديمة بكثرة عقاقيرها، ووفرة سمومها، ما يعني أن الفراعنة كان لديهم معرفة جيدة بنوع المرض، وابتكروا طرقاً لعلاج تلك الأمراض من خلال البيئة التي تُحيط بهم، من أعشاب ونباتات ومواد عضوية ومعدنية، لذا لم تختلف طريقة علاجهم ووصفاتهم كثيرا عما نحن فيه الآن، فقد استعملوا الأمزجة والمراهم والحقن الشرجية، ووضعوا فيها العقاقير، واهتموا بالعلاج العشبي أكثر من غيره والذي كان من أهم أركان العلاج.

"مانح الشفاء".. كلمة قد تبدو من لفظيها أنها لشىء يؤدي إلي الشفاء، كعقار أو دواء، هذان اللفظان باللغة الهيروغليفية بمعني "فار ماكا"، فما العلاقة بين تلك الكلمة الهيروغليفية وعلوم الـ"فارماكولوجي" أو علم الأدوية "Pharmacology"، حتي ولو كان البعض يقول إن ذاك المصطلح يوناني الأصل، وأن الكلمة تعني الدواء "pharmakon"، ولكنها جاءت ككلمة في عصر متأخر جدا، لم تكن تلك هي المصادفة الوحيدة، فعلماء اللغة أكدوا أن هناك رابطا ملحوظا بين اسم مصر الهيروغليفي "Kmt"، ولفظة "كيمياء" العربية، وأن هذا الرابط تم وضعه نسبةً إلى ما اشتهرت به مصر في هذا الفن.

برديات الشفا

 

بعيداً عن حديث المؤرخين، ومعاني الكلام، لأنها قطعاً قد تحتمل التأويل والجدال، هناك مصادر أكثر تأكيدا علي عبقرية الأجداد، فقد ترك الفراعين إرثا يجنبنا أي كلام، ويظهر كيف أن قصة الدواء والعلاج في مصر، وقصة الكيمياء تحديدا مفخرة الأجيال، فهناك عدد كبير من البرديات، تسمي "برديات الطب المصرية"، تحكي الكثير والكثير من الوصفات العلاجية، وكيفية تركيبها، ما يكشف عن حضارة وصلت الذروة، وعن علم وصل القمة، كما أنها تكشف قصة تركيبة الكثير من الأدوية  من العقاقير الفرعونية.

                                           أهم البرديات الطبية 

البردية

المكان

التاريخ

المحتوي

إدوين سميث

نيويورك

1700 ق.م

جراحة الأعصاب

إيبريز

ليبزج

1500 ق.م

طب عام- باطني

كاهون

لندن

1820 ق.م

أمراض النساء

هرست

كاليفورنيا

1450 ق.م

طب عام

شستر بياتي

المتحف البريطاني

1200 ق.م

أمراض الشرج

برلين

برلين

1200 ق.م

طب عام

لندن

المتحف البريطاني

1300 ق.م

السحر

لندن ولايدن

المتحف البريطاني

3450 ق.م

طب عام

كروكوديليوبليس

فيينا

3350 ق.م

طب عام

بوكلين سناك

بروكلين

300 ق.م

لدغ حيات

كارلسبرج

كوبنهاجن

1300 ق.م

أمراض النساء

رامسيوم

أكسفورد

1700 ق.م

أمراض نساء، عيون، أطفال

 

 

الحقيقة أن قائمة البرديات المصرية القديمة التي تحدثت عن الطب في مصر، وعن وصفات العلاج للعديد من الأمراض، تكشف بما لا يدع مجالا للشك، مدي تطور هذا العلم، وريادة وادي النيل، كما أنه يكشف عن الحالة التي عاني منها المصري القديم في صراعه مع المرض، وقد تم العثور علي أغلب تلك البرديات في القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، جميعهم يزين المتاحف العالمية، كُتبت البرديات الطبية باللغة الهيراطيقية، باستثناء برديتي الرامسيوم وكاهون، فقد كُتبتا باللغة الهيروغليفية، وللأسف فُقدت معظم تلك البرديات، ولم يصلنا منها سوي القليل، فُقد البعض، سُرق البعض الثاني، حُرق الكثير في أعمال السحر والشعوذة في القرى المجاورة، وان كان ما بقي كان كافياً ليُعطي لنا دليلاً علي أن أصل هذا العلم مصري.

 

د. أحمد سلطان: باحث في العلوم الصيدلية

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية