مسجد وضريح يعود لنهايات الدولة الأيوبية

أبو الحسن الشاذلي.. قبة وادي حميثرة المُضيئة في يوم عرفة

"يا ساكن حميثره فوقك قبة منوره .. اروي العطاشا يا أبا الحسن .. بكاسات يا شاذلي معطره".. بتلك الكلمات يشدو زوار مولد القطب الصوفي أبو الحسن الشاذلي كل عام، وذلك يوم وقفة عيد الأضحي المبارك، والذي يوافق يوم مولده ووفاته، فيسلك المُحبون مئات الكيلو مترات جنوب محافظة البحر الأحمر، تحديدًا علي بُعد 150 كيلو متر من مدينة مرسي علم، لإحياء ذكرى مولد أبو الحسن الشاذلي ووفاته، فقد وافته المنية أثناء رحلته لأداء فريضة الحج في اتجاه ميناء عيذاب، والذي توافق إحياء مولده في ذلك التوقيت.

 

ولد الزاهد الصوفي أبو الحسن علي بن عبدالله بن عبد الجبار الشاذلي عام 571 هجرية، 1196 ميلادية، بجبال الريف بشمال المغرب، ينتمي لقبيلة الأخماس الغمارية، إحدي قبائل الأمازيغ الكبري، وإحدي فروع المجموعة القبلية الكبرى مصمودة، وينتسب إلية الطريقة الشاذلية، تتلمذ في بداية حياته علي يد الإمام عبد السلام بن مشيش، وذلك في كنف الخلافة الموحدية في المغرب، ثم انتقل إلي جبل زغوان في تونس للإعتكاف، ارتقى خلالها لمنزلة عالية من الفكر الصوفي ودرس علي يد "أبو سعيد الباجي"، قبل أن يرحل إلى مصر ويقيم بمدينة الإسكندرية، لتنتشر طريقته الصوفية، ويُصبح له أتباع في أركان المحروسة.

وصل أبو الحسن الشاذلي إلى مدينة الإسكندرية في نهايات الدولة الأيوبية ومعه بعض تلاميذه، واختار أن يقطن منطقة "كوم الدكة" حيث ألتف حوله الأولياء والعلماء، وكان يعقد حلقاته في "مسجد العطارين"، وقامت دروسه على الكتاب والسنة والسعي في طلب الرزق، ثم أنتقل إلى القاهرة حيث كان يلقى دروسه "بمسجد المقياس بالروضة" ، أو "المدرسة الكاملية"، والتي أنشأها السلطان الكامل ابن شقيق السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وذلك في أوائل القرن السابع الهجري، وأوقف عليه أعيانا كثيرة لتدريس علوم الحديث لذا سُميت بـ"دار الحديث".

"شاذلي يا أبوالحسن".. هكذا يفضل مريديه وزواره وكل من ينتمي للطرق الصوفية التي تخرج في يوم ذكراه مناداته، وليلة عرفات نجدهم يخرجون بعد عصر ذلك اليوم من ساحاتهم القريبة من المقام، رافعين الرايات والبيارق، مرددين بعض القصائد والابتهالات، يقومون بالطواف فيما يسمى بالدورة، وتتجمع حول المقام، القائم بسرة الوادي، حيث تلتف كل جماعة وتؤدي أذكارها غناءً ورقصا حامله بأيديها البيارق، علي مقربه منها ترفرف الرايات الخضراء فوق الخيم المنصوبة، ويتحول الوادي إلى موكب هادر من الوافدين من كل القرى والنجوع بمحافظات مصر المختلفة، يردد الجميع التواشيح والأغاني الدينية، وتدق الطبول والمزامير لتهون مشقة الطريق إلى صحراء عيذاب عن طريق إدفو أو القصير أو قنا.

أما عن المسجد نفسه فيتكون من الضريح القديم، وهو عبارة عن مبني مُثمن الشكل، بكل ضلع من أضلاعه السبعة نافذة واحدة مستطيلة، والثانية على شكل قمارى، أى فتحتان معقودتان تعلوهما دائرة أو معين، وهكذا بالتناوب، أما الضلع الثامن فيوجد به مدخل الضريح نفسه، والذي يتوسطه ثمانية أعمدة تقوم فوقها رقبة مرتفعة تعلوها قبة مدببة، وقد غطى الجزء المحصور بين القبة والمثمن الخارجي سقف مسطح كما زخرف أعلى جدران المثمن بشرافات مسننة.

 

وفي الجنوب من الضريح أُقيم مسجدا يبلغ مساحته حوالي أربعة آلاف متر مربع، ووصلت بينه وبين مدخل الضريح بممر مسقوف، وقد زود المسجد بميضأة ودورة للمياه، كما تم بناء مدرسة لتحفيظ القرآن في الجهة الجنوبية والغربية من المسجد، وسكنا لشيخ المسجد والقائم بالتدريس في المدرسة.

أما تلاميذه الذين سلكوا على يديه طريقته فأكثر من أن يحصوا، فلقد هوت أفئدة أهل مصر إليه وكان له عدة تلاميذ حملوا عنه الدعوة إلى الدين، اشهرهم علي الإطلاق الشيخ أبو العباس المرسي، والذي باهى به أبو الحسن الشاذلي حينما قال، عليكم بأبي العباس يأتي إليه الأعرابي يبول على ساقيه فيخرج من عنده عارفاً بالله، كما عاصرة الكثير من العلماء، علي رأسهم العز ابن عبد السلام، والذي لُقب بـ"سلطان العلماء"، بعد أن بلغ رتبة الاجتهاد، نشأ في دمشق ونقم على حاكمها فخرج منها قاصداً مصر لتجمعه الأقدار مع أبو الحسن الشاذلي، الذي لما سمع كلامه خرج من مجلسه قائلاً اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد بالله.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية