في عام 1862.. تعرف عالم المصريات الأمريكي "أدوين سميث" علي تاجر الآثار المصري "مصطفي أغا"

"العقاقير والأدوية".. أصل مصري تكشفه برديات وادي النيل (2)

في إحدى ليالي عام 1862، وبينما كان عالم المصريات الأمريكي "أدوين سميث" الذي ولد عام 1822 في ولاية "كونيتيكت"، في رحلة الي مدينة الأقصر، تعرف علي تاجر الآثار المصري "مصطفي أغا"، وبمرور الأيام وثق به، فعرض عليه إحدي أوراق البردي، ولم تكن بحالة جيدة ما شجعه علي شرائها بأبخس ثمن، كان يُعتقد أن البردية تنتمي لأحد مقابر جبانات طيبة على الضفة الغربية للنيل، وأنها تعود الي عصر المملكة القديمة، ما بين عامي 2986 و2181 قبل الميلاد، وبعد وفاته أهدت ابنته البردية إلى جمعية نيويورك التاريخية.

 

في عام 1930 طلبت جمعية نيويورك من عالم المصريات الأمريكي "جيمس هنري برستد"، أن يقوم بترجمة البردية، وبالفعل تمت ترجمة أول نسخة باللغة الإنجليزية، وتمت طباعته، وفي عام 1938 نُقلت البردية إلى متحف بروكلين في ولاية نيويورك، وفي عام 1948 انتقلت إلى أكاديمية نيويورك للطب، وفي نفس العام عُرضت للجمهور لأول مرة في متحف "متروبوليتان" للفنون الذي عقد في نيويورك ما بين 13 سبتمبر 2005 و15 يناير 2006.

 

تعد بردية إدوين سميث، والتي يبلغ طولها 4.68 متر، وعرضها حوالي 33 سنتيمتر، أكثر البرديات الطبية أهمية، عبارة عن ملف طوله خمسة عشر قدماً، يعود تاريخ كتابتها إلى عام 1600 قبل الميلاد، وإن كانت تعتمد علي نصوص تعود إلي عام 3000 قبل الميلاد، لذا يعتبر المؤرخون تلك البردية أول وثيقة طبية في تاريخ البشرية، ويرون أن الطبيب المصري الأول "أمنحوتب" هو الذي كتبها.

 

من يطالع بردية "إدوين سميث" سيدرك أنها بردية جراحية في المقام الأول، رغم أنها تصف آلية التعامل الطبي الجراحي لحوالي 48 حالة جميعها تقريباً إصابات حوادث، تختلف من كسر في الجمجمة إلى إصابة النخاع الشوكى، كما تعرض البردية أسلوب التعامل مع كل إصابة في أربع فقرات منفصلة، تبدأ بعنوان مختصر ثم طريقة الفحص الطبي ثم التشخيص، ثم الاستدلال بالأعراض، وعواقبها وطريقة العلاج.

"إذا قمت بفحص مريض يعاني من جرح في خده، ووجدت تورماً واحمراراً حول الجرح، يجب عليك أن تضمده بلحم طازج في اليوم الأول، ويكرر العلاج حتى يقل التورم، وبعد ذلك يعالج بالشحم والعسل بضمادة موضعية يومياً حتى يتم الشفاء".. تلك كانت إحدي الفقرات المُترجمة التي عرضتها البردية للتعامل مع مصاب بجرح في خده، كما تضمنت أفضل التشخيصات والعلاجات لإصابة كسر قاع الجمجمة، إذ "ينزف المريض دماً من فتحات الأنف والأذنين"، وتشخيص الالتهاب السحائي بعلامات دقيقة، إذ "لا يستطيع المريض أن ينظر إلى صدره أو يرى كتفيه" في كناية عن تيبس العنق الناتج عن المرض، وفي بعض الحالات الأخرى غير القابلة للشفاء، وصفت البردية بعض الوصفات والأدوية بغرض تخفيف الألم.

 

الغريبة أن بردية "إدوين سميث" تعرض الحالات المسجلة بها في تسلسل منظم، فهي تبدأ بإصابات قمة الرأس ثم تتجه إلى أسفل نحو الوجه والفك، ثم الرقبة، حتى تصل إلى أعلى القفص الصدري والذراعين، ثم العمود الفقري، ويستمر الفحص إلى الأسفل حتى القدمين، في عرض تشريحي منظم يتبع قواعد التشريح الكلاسيكية الواردة في كتاب "غريز أناتومي" أو "تشريح جراي" ""Gray’s Anatomy، وهو واحد من أشهر وأكبر كتب التشريح الحديثة، وقام بتأليفه عالم التشريح والجراح الإنجليزي "هنري غراي" عام 1858.

 

بردية إيبرز

 

تُعد بردية "إيبرز" أول بردية كُتبت في تاريخ البَشرية، كما أنها تُعد إحدى أهم البرديات الطبية المصرية التي تعتني بمعرفة الأعشاب، ويري الكثير من المؤرخين أن البردية تعود ملكيتها في الأصل الي "إدوين سميث"، الذي اشتراها لدى اقتنائه لبردية "إدوين" للجراحة، لذا يُعتقد أنهما وجدا معاً في نفس المقبرة قبالة الأقصر، وفي شتاء 1873-1874 قام عالم المصريات الألماني "جورج إيبرز" بشرائها، وحتي اليوم لم تخرج من جامعة "لايبتزغ" الألمانية.

 

بردية "إيبرز" أحد أطول البرديات الطبية، فيصل طولها إلى 21 سم وارتفاعها حوالي 30 سنتيمتر، ولكنها تتكون من 110 صفحات، يرجع تاريخ كتابتها إلى العام التاسع من حكم "أمنحتب الأول"، أي حوالي 1534 قبل الميلاد، وإن كان بعض علماء المصريات يؤكدون أن النص الحقيقي تمت كتابته في 2880 ق ب، في عهد الأسرة الثانية، فالنص كُتب باللغة الهيروغليفية وعلى نمطين، الأول: النمط العادي الذي يعتمد على بعض الصور والرموز الخاصة، والثاني: النمط المخصص عند كهنة المعابد أو قصر فرعون.

 

أما عن المحتوى العلمي من البردية، فيقسمها العلماء إلى مقاطع، وكل مقطع مخصص بمادة علمية معينة, فهي تحوي 811 وصفاً، تضم تشخيصات محددة، وأمراض، وعلاجات، وتبدأ البردية بثلاث رقيات، ثم تتحدث عن الأمراض التي تصيب البطن مع التركيز على ديدان الأمعاء، ثم الأمراض الجلدية وأمراض الشرج، وقد حرصت على ذكر الأدوية الخاصة بالاضطرابات التي تصيب كل جزء من أجزاء الجسم، فقد ذكرت ما يقرب من 400 دواء و877 طريقة طبية لعلاج أمراض كالعيون والنساء والجراحات والتشريح والباطنة والجلد.

 

ومن الديدان التي قدمت البردية طريقة التعامل معها دودة غينيا، التي مثلت مشكلة صحية كبيرة في الماضي، وكما تذكر البردية فإنه "إذا فُحصت أورام في أي من ساقي إنسان، فيجب أن تضع عليها ضمادة، وستجد أن هذه النتوءات تتحرك ذهاباً وإياباً تحت الجلد، في هذه الحالة لا بد أن تلجأ إلى العلاج بالمشرط، عليك أن تشق الجلد بواسطة مشرط، ثم تلتقط ما بالداخل بآلة الـ"هينو"، وستجد في الداخل شيئاً يشبه أمعاء الفأر، لا بد أن تنتزعه"، كما تقدم البردية وصفة للمساعدة على نمو الشعر في الرأس الأصلع باستخدام حراشف بعض الزواحف مثل البرص.

 

ومن الأمراض التي سجلتها بردية "إيبرز"، مرض الطفح الجلدي، وقدمت عدة وصفات للمراهم من أجل علاجه، منها ما يتكون من زيت معدني ومزيج من اللبن والزيت النقي، ويوضع المزيج كضمادة على الطفح الجلدي لمدة أربعة أيام، أو يتكون من ورق الأكاسيا، وراتنج، وزيت معدني وسائل اللافندر، والنطرون الأحمر والعسل والزيت، ويدهن به الجلد.

بردية الكاهون

 

برديات الكاهون عبارة عن مجموعة من النصوص المصرية القديمة التي تناقش المواضيع الإدارية والرياضية والطبية، اكتشف عالم المصريات البريطاني سير "ويليام ماثيو فلندرز بتري" أجزاء عديدة منها عام 1889، وتم الاحتفاظ بها في كلية لندن الجامعية، وتعد هذه المجموعة من البرديات، والتي تغطي فترة العصور الوسطي، واحدة من أكبر البرديات التي تم العثور عليها على الإطلاق، فتحتوي علي 35 وصفة طبية لأمراض النساء، والولادة، وهي محفوظة بمتحف المتروبوليتان في نيويورك، كما تُعد معظم نصوصه مؤرخة بتاريخ كاليفورنيا، بدءا من عام 1829، وحتى عهد أمنمحات الثالث.

 

إحدي برديات الكاهون اختصت بأمراض النساء، ويعود تاريخ كتابتها باللغة الهيروغليفية إلى العام التاسع والعشرين من حكم أمنمحات الثالث، وتحديدا عام 1825 قبل الميلاد، تضم 3 صفحات، للأولي 29 سطراً، والثانية 30 سطراً، والثالثة 28 سطراً، وعلى عكس بردية إدوين سميث، لا تحتوي بردية كاهون لأمراض النساء على وصف لكيفية فحص المريضة، لكنها تقدم نصائح علاجية لمن يشتكين من بعض الأعراض، مثل وصفات تُعطى عن طريق الفم أو توضع داخل المهبل أو خارجه.

 

إحدى فقرات البردية تتحدث عن تبخير المهبل بوصفة ما من أجل زيادة فرصة حدوث الحمل، كما تذكر بعض اللبوسات المهبلية كوسيلة لمنع الحمل، تحتوي إحداها على براز التماسيح، والثانية على العسل أو اللبن الرايب، كما تذكر البردية استخدام الزيت الطازج، وصبه داخل المهبل من أجل منع الحمل.

 

الحقيقة أن البردية لم تغفل اختبارات الحمل، فهي تسجل ملحوظة احتقان الأوعية الدموية للثدي كعلامة على الحمل، كما يرد بها بعض الاختبارات الغريبة، حيث توصي بوضع بصلة داخل المهبل، مدعيةً أن المرأة الحامل هي التي ستنبعث رائحة البصل من أنفها، ولذلك يصف الكثيرون محتوى البردية بالمخيب لآمال الطب المعاصر، بسبب بعدها عن المفاهيم الحديثة لأمراض النساء، وعدم وجود أي شيء عن الولادة بها.

 

 

د. أحمد سلطان / أخصائي العلوم الصيدلية

 

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية