"التنورة".. 7 قرون من الرقصات الصوفية التي تحولت إلي فولكلور مصري أصيل

رقصات دائرية صوفية، علي أنغام قصائد الفيلسوف والشاعر التركي الصوفي جلال الدين الرومي، ستأخذك إلى عالم من الصفاء الروحي، تجعلك تشعر وكأنك تطهر نفسك من الهموم والذنوب، هذا كل ما سيراه عشاق هذا الفن في مصر، حتى الأطفال ستجدهم يتراقصون ويلتفون بتلك الحركات الروحانية، منسجمين في عالم من الخشوع.

 

"فن التنورة".. لم يكن مجرد رقصة صوفية، أو حتي فن فولكلوري، فقد تحولت طيلة سبعة قرون مضت، منذ أن ظهرت في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، علي مولانا ابن الرومي، إلي تقليد احتفالي، دائما ما يأتي متبوعا بإيقاعات الذكر والمديح والمواويل الشعبية، ابتكرها جلال الدين الرومي ليحيي بها ليالي الذكر في التكية التي أنشأها لاستقبال الفقراء والغرباء وعابري السبيل والدراويش.

 

كان الذكر في تكية ابن الرومي يبدأ بعمل حلقة لا تقل عن 40 درويش، تختلف ألوان ملابسهم، هناك الأخضر والأحمر والأسود والأبيض، والحقيقة أن الباحثون لا يعلمون أسباب اختلاف هذه الألوان، يبدأ الدراويش بترديد لفظ الجلالة، مع كل هتاب بإسم الله ينحنون برؤوسهم وأجسادهم ويخطون في اتجاه اليمين، فتلف الحلقة كلها بسرعة، ثم يتجه أحدهم إلى وسط الحلقة ويلف حول نفسه بسرعة وهو فارد ذراعيه، فتنتشر تنورته على شكل مظلة أو شمسية، ثم ينحني أمام شيخه الذي يجلس داخل الحلقة، ويعود للذكر مع باقي الدراويش.

في بداية الدولة الفاطمية، استطاع الفنان المصري أن يبني من رقص الدراويش فنا استعراضيا يحمل الصورة المصرية المتكاملة، فأدخل فيه الآلات الشعبية كالربابة والمزمار والصاجات والدفوف، أما الفانوس فيعتبر الأصعب في هذه الاستعراضات، ولا يقوم بها إلا الراقص الذي يتميز بمهارة حركية كبيرة، وتركيز أكبر، فعلي الراقص أن يتجاهل جمهوره ويشغل كل تركيزه على الفانوس حتى لا يسقط من يده، كل هذه الإضافات أدخلها الفنان المصري ليخرج من ملل الرقص الصوفي الرتيب، ويجذب الناس إليه أكثر.

 

والتنورة رقصة إيقاعية جماعية، تحكمها أسس فلسفية صوفية، فراقصيها يرون أن الحركة في الكون تبدأ من نقطة وتنتهي عند نفس النقطة، ولذلك يقومون بحركات دائرية، رغبة منهم في بلوغ مرحلة سامية من الصفاء الروحي، لاعتقادهم أن حركة الدوران أمر إلهي، وهذا يظهر في دوران الذرة والأجرام السماوية والشمس، أيضا يظهر في حركة الطواف حول الكعبة، فالروح تسمو بعد إجهاد الجسد.

 

"اللفيف".. هكذا يطلقون على راقص التنورة، فهو يرتدي تنورتين أو ثلاثة، يصل وزن الواحدة منها 8 كيلوجرام، ويبلغ قطرها 7 أمتار، وعرضها حوالي متر، كما يرتدي حزاما على نصفه الأعلي يسمى "السبته"، هذا الحزام يجعله قادرا على شد ظهره وهو يدور حاملا كل هذا الحمل، بينما يتسع الجلباب من الأسفل ليعطي الشكل الدائري.

والحقيقة أن ملابس راقصي التنورة في "تركيا" انتشرت بشكل تقليدي مثير للملل، ولا يضفي على الرقصات أي نوع من الجماليات، فكان الراقص في حلقات الذكر يلف جسده بتنوره، ثم يرتدي جلباب أبيض وصديري أبيض، يليه "جيب" يتدلي من الوسط إلى أسفل، ويضع على رأسه طربوشا أبيض، ولكن الفنان المصري كعادته، أضاف لمساته الجمالية على ما يرتديه، ففي بداية الثمانينات اهتم بتلوينه، فأصبح زي الراقص متوفر بألوان مختلفة.

 

ومع بداية التسعينات بدأ التطوير يلمسه بشكل أكبر، فأدخل عليه الزخرفة والخطوط الهندسية، وفي عام 2000 جعل التنوره من قماش الخيام الخشن، فوق الجلباب، وزخرفه بأشكال إسلامية، وهو شغل يدوي يُصنع في حي الحسين والغورية في شارع الخيامية بالقرب من باب زويلة إمتدادا للغورية في القاهرة، وفي عام 2006 بدأ يدخل التطريز بالكمبيوتر على الزي، وأخيرا أضيفت الإضاءة إلي التنورة، فتحولت إلي أشهر الفنون التراثية الشعبية التي تشتهر بها مصر والتي تجذب العديد من الجماهير بمختلف طبقاتها وأعمارها وتحظى بإهتمام السائحين الذين يقبلون بشكل كبير على حفلاتها وينبهرون بها.

 

انتقلت التنورة من مصر إلى بلاد المغرب، وانتشرت بنفس الألوان التي اشتهرت في مصر، وإن كان الفنان المغربي أضاف بعض من لمساته الجمالية هو الأخر، فأبتكر تنوره أخرى تجعل الراقص يبدو وكأنه فانوس حينما تنفصل عن التنورة الأولى، فيبدو وكأن الجسد يحترق لتسمو الروح، وهى الفكرة التى تقوم عليها رقصة التنورة فى الدوران.



فلسفة دينية

ورغم أن فلسفة التنورة لها جانب ديني في اتخاذ حركة الطواف نفسها حول الكعبة أو دوران الكواكب، إلا إنها تحولت إلى طقس استعراضي، وهو ما يلفت الانتباه إلى الحالة اللونية للراقصين، وإن كان مازال بعض الراقصين يعتبرونه طقسا من الطقوس الدينية لما بعد الموت، ولذلك فهم يستخدمون لونين فقط في زيهم، وهو اللون الأبيض للتنورة السفلية كرمزا للكفن، واللون الأسود للتنورة العلوية كرمزا للقبر، أما الطربوش فيعتبروه شاهد القبر.

 

جذب فن التنورة الكثير من الرسامين والنحاتين، فرسم الرسام والنحات الفرنسي "جان ليون جيروم" لوحة "دراويش المولوية" عام 1895، تصور بعض مظاهر التصوف، الثياب الرثة البالية، الشعر الأشعث، الرؤوس المترنِحة، والرقص على إيقاع الدفوف وأنغام الناي.

 

كذلك رسم الفنان التشيكلي المصري محمود سعيد لوحة "الدراويش" عام 1929، تظهر فيها ستة من دراويش المولوية بملامح متشابهة وملابس متماثلة مع فروق في وضعيه كل منهم أثناء أداء الأذكار الدينية في العصور العثمانية، هذه اللوحة بيعت في دار كريستيز للمزادات العالمية في دبي سنة 2010 بمبلغ 2.546 مليون دولار، وبذلك أصبحت أغلى لوحة رسمها فنان من الشرق الأوسط في العصر الحديث في ذلك الوقت.

استمرت الأجيال التالية من الفنانين بالاهتمام بهذا الفن الراقص، فنجد الفنان التشكيلي المصري طاهر عبد العظيم يعرض 35 لوحة في معرضه "حركة ولون" الذي اقيم سنة 2010، كل منها تقدم حالة مختلفة عن التنورة، وتختلف درجات البطولة في كل لوحة عن الأخرى، فتبرز 5 لوحات عازف الطبلة أو لاعب الصاجات ليحتل منصة البولة في المشهد.

 

أيضا رسم الفنان التشكيلي المصري عماد رزق 6 لوحات، قدمهم في معرض فني جماعي تحت عنوان "تفاصيل مصرية" سنة 2016، هذه اللوحات تعرض درويشا يرتدي التنورة، ويدور بها، أيضا تناولها العديد من محترفي الفوتوغرافيا المصريين والأجانب.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية