"هيباتيا".. عروس الرياضيات وسيدة شهداء العلم

أول امرأة يلمع أسمها في عالم الرياضيات عبر التاريخ، عاشت في مدينة الإسكندرية منذ ألف وستمائة عام في العصر الروماني، مع بداية انتشار الدين المسيحي في العالم، وتحديدا في فترة حكم الإمبراطور ثيودوسيوس الأول، الذي حكم خلال سنوات 379 وحتى 395، وحكم ابنه الإمبراطور آركاديوس الذي استمر حكمه منذ وفاة والده وحتى عام 408، وشهد مقتلها المروع فترة حكم حفيده ثيودوسيوس الثاني عام 415 ميلادية، ورغم أن لها مؤلفات عديدة لكن لم يصلنا منها إلا القليل.

 

هيباتيا ثيون الكسندروس، أحد رواد علم الفلك، شهد لها التاريخ على نبوغها في مجال الرياضيات، والفلسفة، والميكانيكا، والفلك، كان لوالدها عالم الرياضيات تأثير كبير عليها، فقد نشأت منذ نعومة أظفارها في بيئة علمية بحتة، وسط العلماء والفلاسفة، وعاشت بين المؤلفات والمراجع العلمية، التي كانت تزخر بها مكتبة الأسكندرية، والتي كان يترأسها والدها في ذلك الوقت، باعتباره آخر رؤساء مكتبة الاسكندرية "السيزاريوم"، فتدثرت بالعلم، ولم تعتنق دينا سواه.

 

في ذلك الوقت، كان مقر مكتبة الإسكندرية الرسمي داخل معبد السيرابيوم، بعد تدمير المكتبة الأولى التي كانت تقع في الحي الملكي المطل على شاطئ البحر، بكل ملحقاتها ومبانيها خلال الصراعات والمعارك المتلاحقة التي شهدتها مدينة الإسكندرية وقتها، فذلك المعبد الذي يقع غرب المدينة في كوم الشقافة بكرموز، كان الملاذ الوحيد لمئات من اللفائف والبرديات، والمكان الآمن الذي انتقل إليه أساتذة العلم المتخصصين المصريين ليلقوا فيه دروسهم العلمية، بعد أن هرب ما تبقى من العلماء الأجانب بسبب الصراعات المسلحة.  

تأثرت هيباتيا تأثرا عميقاً ومباشراً بعلم والدها وثقافته، وتأثرت بشكل أبرز بتخصصه في علم الرياضيات، فبرعت في هذا العلم، وشاركته في تأليف عده كتب قاما فيها معاً بنقد وتحليل كتاب "العناصر" لاقليدس، وكتاب "المجاسطي" لكلوديوس بطليموس، وإن كانت انفردت بالتركيز على مؤلفات أبوللونيوس البرمجي حول الأشكال المخروطية، ومكنها التعمق في هذا العلم من تقديم تفسيرات جديدة للأهليج، وهو الشكل الهندسي شبه البيضاوي المسمي أيضا بالقطع الناقص، تلك التفسيرات كان لها دور كبير في تطور شروحات علم الفلك وحركة الكواكب، مما جعل العلماء يذكرون هيباتيا ضمن الرواد في هذا المجال، ومن أهم مساهماتها في مجال العلوم رسم مواقع الاجرام السماوية، واختراعها لمقياس السائل النوعي الذي يُسمى "المكثاف".

 

وفي عام 400 ميلادية، أصبحت هيباتيا سيدة مدرسة الإسكندرية للأفلاطونية الجديدة، فقد تعمقت في علم الفلسفة حتى أنها كانت أفضل من يشرح ويعلق على أعمال عظماء الفلاسفة مثل أعمال الفيلسوف اليوناني الكلاسيكي ارستوكليس ابن ارستون، المعروف بإسم أفلاطون، وأعمال تلميذه أرسطو، وأفلوطين الذي يعرف في المصادر العربية بـ"الشيخ اليوناني"، وحتى أعمال الفيلسوف اليوناني هيراقليتوس، الذي لقب بالفيلسوف الغامض صاحب الألغاز، لأنه كان يتكلم بالتشبيهات ولا يعني بإيضاح مقصود، شهد لها تلاميذها بأنه كان لها أسلوب جذاب ومتميز في التدريس، ومن بينهم أوريستس الذي أصبح حاكما للإسكندرية.

 

ورغم إنها لم تكن من دعاة التحريض، أو الساعين خلف السلطة، وكان كل ما يشغلها عن الدنيا هو علمها، حتى أن بعض المؤرخين يؤكدون أنها ترهبنت في محراب العلم ولم تتزوج، إلا إنها وجدت من يكرهها ويحرض على قتلها، بسبب التفاف جمهور المثقفين حولها الذي سبب إحراجا للكنيسة، وكان راعيها في ذلك الوقت الأسقف "كيرلس الأول"، والذي أدرك خطورتها على المجتمع المسيحي في المدينة، خاصة وأن بعض تلاميذها الملتفون حولها كانوا من المسيحيين، ومنهم حاكم المدينة "أوريستوس" الذي كان مقربا إليها، والذي كان في صراع سياسي معه حول السيطرة على المدينة، فنصب نفسه عدوا لها، واتهمها بالزندقة والإلحاد، وأمر بقتلها.

ودون أن تحصل على فرصة للدفاع عن نفسها، قبضت عليها جماعة من جيش الكنيسة، وجردوها من ملابسها، وسحلت في شوارع الإسكندرية، وسُلخ لحمها عن عظامها باستخدام أصداف البحر كوسيلة لتعذيبها، وأخيرا حُرق ما تبقى من أشلائها، في مشهد دموي عنيف، يثير الرهبة والذعر، حتى تصل الرسالة إلى الجميع، ويفهم أهل العلم أن اعتناق العلم ممنوع وخطر عليهم، وأن ما يريده أهل التطرف هو ما يجب أن يسود.

 

رغم محاولات ذلك الأسقف من مسح ذكراها، كعادة الثقافة الكنسية الدموية في العصور الوسطي، التي عُرفت بعصور الظلام، إلا أن هيباتيا عاشت، وعاش علمها من خلال المكاتبات والمراسلات التي أرسلتها إلى تلميذها "سينوسيوس القورينائي"، الذي أصبح عام 410 ميلادية أسقف بتلومياس، وهي ليبيا حاليا، تلك الرسائل تعتبر المصدر الوحيد المتبقي عنها، وحتى إن كانت أعمالها المكتوبة فقدها هذا العالم بعد موتها، فيكفي إنها غرست علمها في تلاميذها، والذي كان طريقا لتطور علوم الفلك والرياضيات.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية