رحلة زمنية مكانية تتنقل عبر تاريخ طويل

"مصر التي في متحف اللوفر".. أربعة أهرامات زجاجية تحية لـ77 قرن من الحضارة المصرية (2)

منذ ثلاثة عقود مضت، وتحديدًا عام 1989، شيدت الحكومة الفرنسية هرمًا زجاجيًا علي مدخل متحف اللوفر، يصل ارتفاعه إلي نحو 21 مترًا، ويُعد ذلك الهرم واحد من أصل أربعة آخرين أصغر منه حجماً، يحيطون به في الفناء الخارجي للمتحف, وقدموه هدية بمثابة تحية للقدماء المصريين وعالمهم المدهش.

 

لذلك عكفوا طيلة عقود القرن التاسع عشر علي نقل هذا العالم إلي متحفهم الوليد، فخلال عقدين من الزمان، وتحديدًا بين الأعوام 1850 - 1870، دخلت اللوفر مجموعات أخرى قادمة من مصر عن طريق الشراء والهبات، وكان أكثر أصحابها من الديبلوماسيين الأجانب فى مصر والذين كانوا يهدونها، بعد عودتهم، إلى المتحف، ففى العام 1857، دخلت لوحات القنصل السويدى الأرمنى الأصل جيوفانى أنستازى، ومجموعات شافاليه دى بالين فى العام 1859، وأشيل فول فى 1860، والكونت تسيكيفيسكز فى 1862، نائب القنصل الروسى سليمان، والقنصل الفرنسى  دلابورت فى 1863، ألفونس ريافيه فى 1867، والمجموعة الكاملة لـروسى بك المكونة من 1208 قطعة أثرية فى العام 1868.

وبانتهاء فترة القناصل المزدهرة فى نقل آثار مصر إلى اللوفر، والتى كونت اللوفر المصري بكل تأكيد، تغلق فرنسا فصلاً فى مسلسلها الشهير وتفتح آخر، فقد ابتكرت فعليًا طريقة جديدة لمواصلة مسيرتها، بتزويد المتاحف الفرنسية بالآثار المصرية، وكانت عملية تقسيم الآثار المستخرجة من المواقع الأثرية أو نقلها كلية أو أهم ما بها.

 

ففى الفترة من 1852 - 1853 تسلم اللوفر أولى دفعات الآثار المصرية الخارجة من سرابيوم منف، مدافن العجل أبيس المقدس، كجزء من الإستراتيجية الفرنسية الجديدة لنقل الآثار الناتجة عن الحفائر، وهى وسيلة اتبعت فى إحضار الآثار المصرية إلى اللوفر.

وخصص ملحق القسم المصرى فى اللوفر أوجست مارييت حياته كلها لإرسال الآثار المصرية إلى فرنسا، وحضر إلى مصر موفداً من قبل متحفه لشراء عدد من المخطوطات القبطية، فقام بحفائر غير منظمة فى سقارة مستعيناً بإرشادات الأهالى وبالأموال التى كانت معه، فعثر على السرابيوم، فأخطر متحفه بذلك، فمده على الفور بالمال الوفير لمواصلة عملية نقل الآثار المصرية إلى اللوفر.

 

وأسس مارييت مصلحة الآثار ومتحف بولاق، وذلك بضغط من الحكومة الفرنسية على حاكمى مصر سعيد باشا والخديو إسماعيل على التوالى، كذريعة لإبقاء رجلهم فى مصر، حتى يحصلوا على ما يريدون من آثار، ويكفى أن نعرف إن مارييت وحده أرسل إلى فرنسا، مارييت باشا فى ما بعد، والذى اطلق اسمه على أحد أكبر شوارع القاهرة، والمدفون تكريما له فى حديقة المتحف المصرى، حوالى ستة آلاف قطعة أثرية من جبانة سقارة جنوب أهرام الجيزة وحدها، فما بالنا بالمناطق الأخرى، حتى نعلم مدى الخسارة التى ألحقها هذا الرجل بالآثار المصرية والتاريخ المصرى القديم، رغم ما يشيع عن خدماته الجليلة لآثار مصر

كما أن "مارييت" أخرج من مدافن العجل أبيس المقدس وحدها، ألف لوحة وتماثيل العجل أبيس الأندر فى الحضارة المصرية القديمة كلها، وتماثيل الإله بس رمز المرح والضحك، ومئات من تماثيل الأوشابتى "التماثيل المجيبة"، وعدداً كبيراً من قطع سبقت عهد الملك رمسيس الثانى وابنه الأكبر الأمير خع - إم – واست، وخلال عمليات نقل الآثار المستمرة من السرابيوم، اكتشف مارييت عدداً من المقابر من عصر الأهرام، وفى إحداها عثر على تمثال الكاتب المصرى الجالس الشهير، أحد أبرز معالم اللوفر من عصر الأسرة الخامسة، والذى لو وضع فى كفة وآثار اللوفر كلها فى كفة، لرجحت كفته، كما يقر بذلك معظم العلماء.

 

فى الفترة من 1849 - 1894، حدثت زيادة عظيمة فى حجم المجموعة، وذلك نتيجة للتغيرات الإدارية الكبيرة الناجمة عن ثورة 1848، فقد حاول مدير اللوفر فيليب أغسطس جانرو تطبيق برنامج طموح لاعادة تنظيم المتحف وتزويده بالمقتنيات الجديدة، وبنهاية القرن التاسع عشر تقل عمليات بيع الآثار الكبرى، فتعرض الفرنسيون لمأزق خطير سرعان ما تغلبوا عليه، فما فعله رفيلو بالاعتماد على مجموعات كبيرة من وثائق العصور المتأخرة لتزويد المتحف بها، كان الحل الأمثل لتلك المشكلة، وبالرغم من أن هذه الوثائق أقل جاذبية وإثارة للجمهور، فإن هذه النصوص الديموطية والقبطية واليونانية حوّت ثروة كبيرة من المعرفة عن خصائص معينة في الحضارة المصرية.

خلال الفترة بين عامي 1879 و1896، دخل متحف اللوفر عدد كبير من البرديات والأوستراكات والنصوص الخارجة من المومياوات، وتمثل الآن فى مجموعها واحدة من أكبر المجموعات فى هذا المجال فى العالم كله، وعن طريق الشراء من الأفراد دخل اللوفر عدد متميز من الآثار المصرية، ففى العام 1872، تم شراء مجموعة الملك أوسركون الاول الرائعة، من تاجرى العاديات رولن وفواردن بمبلغ باهظ، حوالى خمسة وعشرين ألف فرنك فرنسى، كما حصل اللوفر على ثلاث قطع حلى من مبيعات الأمير نابليون، وشملت صدرية الملك أحمس الأول محرر مصر من الهكسوس، وفى العام 1883 دخلت المتحف التماثيل البرونزية الكبيرة من مجموعة بوسنو وتمثال فرس النهر القاشانى الأروع، وفى العام 1895، قام بنديت بأولى رحلات الشراء السنوية إلى مصر، وقتذاك، كان المتحف المصرى بالقاهرة ذو الإدارة الفرنسية، يبيع الآثار المصرية- رغم إنه كان مكلفا بالمحافظة عليها.

 

وفى تلك الأثناء، قامت مصلحة الآثار، الفرنسية الإدارة أيضاً، بعرض مجموعة كاملة من الآثار لبيعها إلى متاحف العالم الكبرى، وانتشرت محال بيع الأنتيكات فى شوارع القاهرة والتف حولها جامعو الآثار الاوروبيون الذين أتوا من كل حدب وصوب، ونتيجة لهذه الرحلات المستمرة امتلأ اللوفر عن آخره بمجموعة من أروع الروائع، ولكل عصر ما يميزه من الآثار الفريدة، ففى هذه الرحلة حصلوا على سكين جبل العرك ذى المقبض العاجى المنحوت، والذى يُعد واحداً من أهم آثار عصر ما قبل وبداية الأسرات المصرية، والذى ساهم بشكل كبير فى تأريخ تلك الفترة، وباعت مصلحة الآثار لمتحف اللوفر مصطبة آخت حوتب ذات النقوش الرائعة، وعمود هرم الملك ونيس الجرانيتى الوردى ذا الأمتار الستة، وتمثال أخناتون النصفى الجميل، وأربع مزهريات من القاشانى الأزرق الرائق، ممهورة باسم الملك رمسيس الثانى العظيم، والسيستروم "آلة موسيقية" الفريد الذى يحمل اسم مغنية المعبود آمون المدعوة حنوت-تاوى.

وفى عام 1907، تسلم اللوفر جزءا من مجموعة احتوت أشياء نادرة عدة، مثل فلك البروج بسقف معبد دندرة السالف الذكر، وحجرة الاسلاف بمعابد الكرنك فى البر الشرقى للأقصر، وأحضرها إلى فرنسا الرسام الفرنسى الشهير إميل بريس دافين الذى أشهر إسلامه وتسمى بـادريس أفندى فى ما بعد، وبعد نقل آثار السرابيوم، كانت الآثار المصرية ترسل بانتظام إلى اللوفر وانتشر النباشون الفرنسيون فى أرض مصر يقلبونها شبراً شبراً، بحثاً عن الآثار المصرية من أقاصى الدلتا شمالاً وإلى الجندل الأول جنوبا. فمن تانيس، احضروا عمودين من الجرانيت الوردى وأساسات معابدها.

 

وكانت هليوبوليس عين شمس والمطربة الحاليتان شرق القاهرة أولى المواقع التى أمدت اللوفر بالكثير من الآثار، وبالرغم من قلة ما أخرجته، فإنه كان عظيم الأهمية بشكل لم يسبق له مثيل، وشمل، فيما شمل، النقش الصاوى "الأسرة 26" النادر للموضوع المصرى الأثير، والمعروف بـالصيد فى الأحراش كطقس للقضاء على الشر فى العالم الآخر. ومن أبو رواش شمال أهرام الجيزة، جاء التمثال النصفى الآسر لابن الملك خوفو، الملك جدفرع وآثار لأمراء آخرين من العائلة المالكة، علاوة على ما اخرجه الموقع من آثار كثيرة ترجع الى عصر ما قبل وبداية الأسرات المصرية، وهى من مفاخر اللوفر وشملت الأوانى الحجرية وصلايات السشت "الواح صحن الكحل"، والأسلحة النحاسية، والأسود العاجية الصغيرة، وقطع الألعاب المختلفة.

ومن بين الآثار المكتشفة فى تنيس شمال الدلتا المصرية، التوابيت ذات رؤوس الصقور المصغرة، وأخرجت مقابر زواية الأموات ودارا فى مصر الوسطى تماثيل الخدم المؤدين أعمالهم المكلفين بها، والحلى، والآثار النذرية من أواخر عصر الدولة القديمة، كما استخرجوا نسيج القباطى ذا الشهرة العالمية من جبانة أنتنوى "الشيخ عبادة" فى المنيا، وتمثل الآن مجموعة اللوفر واحدة من أكبر مجموعاته فى العالم، ومن بينها، شال سابين المزين برسومات أسطورية منفذة بألوان مخلوطة.

 

واكتشفت أيضاً آثار كثيرة من أدوات الحياة اليومية مثل صناديق أقلام الرسم، وأدوات النسيج، والفخار ذى الرسومات الحيوانية، فيما وجدت الأعتاب الخشبية والأبواب والتيجان واللوحات الجدارية مدفونة تحت الرمال فى باويط فى أسيوط وسط صعيد مصر، مما دعا أمناء المتحف إلى تخصيص قاعة فى المتحف لتكوين كنيسة قبطية، ومن أروع ما عثر عليه من الآثار، تلك الحشوة الخشبية الملونة المدهشة والتى تجمع بين السيد المسيح عليه السلام، ورئيس الدير الأنبا مينا والأفاريز المنحوتة بالتصميمات النباتية والطيور، والأعتاب الخشبية المصور عليها الملكان ميكائيل وجبريل، وتعكس كل هذه الآثار مدى أهمية هذا الدير الذى عمر بين القرنين السادس والثامن الميلادي.

وأخرجت أسيوط، المكان الاستراتيجى فى عصر الدولة الوسطى، الأثاث الجنائزى الخاص برئيس القضاة نخت مع تمثاله المعبر من خشب الأكاشيا "السنط"، والتوابيت الحجرية، والتماثيل الصغيرة لحملة القرابين، والنماذج الملونة للمراكب والمخازن، ومن جبانة أبيدوس الملكية، جاء العمل الأعظم، لوحة الملك الثعبان، وأثاث الأسرتين الأولى والثانية النادر، ولوحات الأفراد، والأوانى المنقوشة، والآثار المعدنية والعاجية.

 

واكتشف فى الطود والميدامود، بالقرب من الأقصر، كنز من الفضة واللازورد والتماثيل الملكية، ونقوش من الحجر الجيري، ووجوه الملكين أمنمحات وسنوسرت، وهى من روائع فن النحت من عصر الدولة الوسطى، وفى قرية دير المدنية فى البر الغربى لمدينة الأقصر، حيث عاش ودفن العمال والفنانون المهرة الذين قاموا بتشييد وتزيين مقابر وادي الملوك، عصر الفرنسيون على كنز هائل من المعلومات عن كثير من مظاهر الحياة والموت فى عصر الدولة الحديثة، فاكتشفت آلاف الأشياء فى مقابر هؤلاء العمال والفنانين فى انقاض هذه القرية، والتى تحكى عنهم كل شىء، الطعام الذى كانوا يأكلونه مثل الفواكة، والخضراوات، والدجاج، وأثاثهم، وأدواتهم، وآلاتهم الموسيقية، وابتهالاتهم للآلهة، وأعمال التلاميذ المدرسية، والمشاجرات بين الزملاء، وأحوال المنزل، وشؤون الزوجات، وسجلت كل هذه الأشياء فى الوثائق المكتوبة الخاصة بذلك المجتمع، ووجدت التماثيل والأعتاب والأثاث الجنائزى فى منطقة مقبرة القائد إزى فى إدفو شمال أسوان فى صعيد مصر، والتى تجسد بوضوح تطور الجبانة فى عصرى الدولتين القديمة والوسطى.

وأخرجت جزيرة إلفنتين قرب أسوان وثائق ضرورية توضح كيفية عبادة آلهة الجندل الأول، وتشمل مومياوات الكباش، الحيوان المقدس للاله خنوم رب الخلق عند المصرى القديم، والقرابين المنذورة للإلهة عنقت، والكتل الحجرية الضخمة المخصصة لمعبد الإلهة ساتت زوجتا الإله خنوم اللتين تكونان معه ثالوث جزيرة إلفنتين.

 

وفى عام 1972، حصلت فرنسا على العمود الأوزيرى، نسبة إلى أوزيريس، الضخم والخاص بالملك أخناتون، والمتحف ملىء بتماثيل المرأة رمز الجمال الأغريقية فينوس القادمة من مصر، وكذلك الموازييك المصرى وبورتريهات الفيوم من الحقبة الرومانية ومنحوتات دافنى والعذراء أنونسيات، والمخازن مليئة بالملابس وتماثيل التراكوتا "الطمى المحروق" المصرية الصميمة.

وبالنظر إلى النشاط الفرنسى فى الآثار المصرية، نجد أنه بدأ منذ فترة مبكرة جداً، ربما تكون أولى محطاتها الحملة الفرنسية على مصر، وأن الآثار المصرية فى اللوفر جاءت من كل بقاع مصر من أدنى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقدم العصور المصرية منذ عصور ما قبل التاريخ مروراً بالعصر العتيق وعصور الدول القديمة والوسطى والحديثة، وبما تخللها من عصور اضطراب، وإلى نهاية العصور الفرعونية، ثم العروج على آثار مصر البطلمية والرومانية والقبطية وإلى الفتح العربى.

 

كل ما سبق يؤكد أن متحف اللوفر عبارة عن رحلة زمانية تبدأ على وجه التقريب منذ سبعة آلاف عام قبل الميلاد وتمتد إلى سبعمائة ميلادية، حوالى 77 قرناً هى عمر التجربة المصرية منذ عصور ما قبل التاريخ وإلى الفتح العربى، ما يعني أنها رحلة زمانية مكانية، خاضها الفرنسيون فى سبيل تكوين متحف اللوفر.

وتنوعت مصادر تمويلهم بالآثار من فترة القناصل المزدهرة التى كانت مصر فيها مسرحاً مستباحاً لأخذ الآثار على أيدى القناصل الأجانب بها، فى ظل غيبة الوعى والإهمال اللذين كانت تتعامل بهما الحكومة المصرية مع الآثار، والتى لم تكن تدرى عنها شيئاً وترضى خاطر الأجانب بأية طريقة، إلى الاعتماد على الحفر المباشر فى الأرض المصرية، ثم الشراء من تجار العاديات، وتقبل الإهداءات، واللافت للنظر فى تعامل الفرنسيين مع الآثار المصرية أنهم كانوا لا يأخذون إلا أروع الروائع وأندر النوادر، فهم يقدرون الروعة والندرة فى كل الآثار التى بجلبونها إلى اللوفر، ليصنعوا تاريخاً لهم من خلال سحر مصر القديمة الذى لا يقاوم.

 

مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية



إقراء ايضا